بيار سالينجر – أريك لوران:
لقد سرّ صدام حسين بهذا الاطراء وغمره شعور بالفخر، كما قال لدى سماعه ذلك، وقام بعد ساعات من المقابلة بنقل ما دار فيها إلى عدد من زعماء الدول العربية وكان أول من اتصل به هاتفياً هو الملك الأردني حسين.
وبهذا أبلغ كيلي الرسالة الأولى من سلسلة طويلة من الرسائل المبهمة والمتناقضة التي سوف تكون لها نتائج خطيرة.
وفي 15 فبراير وبعد المقابلة بثلاثة أيام بثت اذاعة “صوت أميركا” برنامجاً قالت إنه يعكس وجهة نظر الحكومة الأميركية وأهابت فيه بالرأي العام العالمي أن يتحرك ضد الديكتاتوريين الذين يحكمون في مختلف اقطار العالم. وذكرت العراق وأدانت صدام حسين بوصفه أسوأ ديكتاتور في العالم. فغضب الرئيس العراقي غضباً شديداً. ولم ينفع معه الاعتذار الذي قدمته واشنطن عبر سفارتها في بغداد. ورفض قبول القول بأن إذاعة “صوت أميركا” قد تعبر عن رأي يخالف الرأي الرسمي، وإذ جاء هذا الحادث بعد إطراء كيلي عليه مباشرة فقد اتخذه صدام دليلاً على أن الأميركيين يقومون بلعبة مزدوجة. ومما رسّخ قناعته هذه، قيام وزارة الخارجية الأميركية، يوم 21 فبراير بنشر تقرير عن حقوق الإنسان خصّت العراق بعدد من صفحاته تجاوز 12 صفحة وصفت فيها الحكومة العراقية بأنها أسوأ منتهك لحقوق الإنسان، وأشارت إلى ممارسة هذه الحكومة المتكررة للتعذيب والاعدامات السريعة دون محاكمة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد لأن لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأميركي أرادت، بعد صدور هذا التقرير، تبني قرار يدين “العراق لخرقه الفاضح لحقوق الإنسان” مما دفع بإدراة الرئيس بوش إلى الاحتجاج على هذه الخطوة والحؤول دون تبنيها من قبل مجلس النواب. وكشفت جميع هذه الاشارات المتناقضة عن أن الادارة الأميركية لم تكن مهتمة اهتماماً جديا بما يحدث في الشرق الأوسط، وأن العراق والمنطقة ليسا بين أولوياتها. فالرئيس بوش وزملاؤه، وعلى الأخص جيمس بيكر وزير الخارجية كانوا يركزون اهتمامهم وطاقتهم في الحوار الأميركي السوفييتي وفي تفجر الديمقراطية الرائع في أوروبا الشرقية.
وفي 23 فبراير 1990 وصل صدام إلى عمان. وبقي مسار الرحلة وموعد الوصول سراً حتى اللحظة الأخيرة. فخوفاً من الاغتيال ركب طائرة خاصة بلا إشارات مميزة. أما الطائرة التي كان يستخدمها في الرحلات الرسمية فكانت قد هبطت في عمان قبل ساعات وعلى متنها زملاؤه وحرسه. وعندما استقبله الملك حسين كان يبدو قلقاً ومتوترا. وكان قد جاء إلى عمان للمشاركة في احتفالات الذكرى السنوية الأولى لمجلس التعاون العربي. وفي حين أن الملك حسين كان يعلق آمالاً كبيرة على المجلس الذي كان يضم العراق والأردن ومصر واليمن، فان صدام حسين لم يكن يعيره اهتماما خاصاً. والواقع أنه لم تثر أيضاً اهتمام العرب والصحفيين الأجانب في عمان. ومما يذكر أنه لم يكن بوسع أحد عندئذ أن يتنبأ بما سيقال في الاجتماع وخصوصاً وراء الكواليس. وألقى صدام خطاباً شديد اللهجة تنبأ فيه بأن تراجع قوة موسكو سوف يطلق يد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال السنوات الخمس القادمة على نطاق لم يسبق له مثيل. قال “ألا تقوم واشنطن الآن بمساعدة اليهود السوفييت على الهجرة إلى إسرائيل؟ ألا تقوم كذلك بتسيير دورياتها في الخليج بالرغم من انتهاء الحرب العراقية الإيرانية؟”. وقال صدام في خطابه الذي أذيع من عمان بأن دوافع أميركا واضحة. قال: “إن البلاد التي ستمارس أكبر نفوذ في المنطقة وتهيمن على الخليج وبتروله سوف توطد تفوقها كقوة عظمى لا تُنافس. وهذا يبرهن على أن أهل الخليج وسائر العرب الآخرين في غفلة عما يجري وأن المنطقة ستحكم وفقاً لمشيئة الولايات المتحدة. وستقوم هذه بتحديد سعر البترول بشكل يخدم مصالحها لا مصالح الآخرين”. كانت رسالة صدام لزملائه واضحة وهي أن هيمنة العراق على الخليج لا هيمنة الولايات المتحدة هي التي تخدم مصالح العرب على أفضل وجه.
على أن ما قاله صدام أثار غضب الرئيس المصري حسني مبارك حليف أميركا الرئيسي في المنطقة. فالقاهرة كانت تتلقى سنوياً من واشنطن أكثر من ملياري دولار على شكل مساعدات.
واقترح صدام في خطابه أن تسحب أرصدة البترول المستثمرة في الغرب لتغيير السياسة الأميركية. وقال: “ليس هناك مكان بين العرب الأخيار للجبناء الذين يذهبون إلى أنه ينبغي أن يترك أمر اتخاذ القرارات لقوة عظمى هي الولايات المتحدة وأن على الجميع الرضوخ لها. خرج مبارك، الذي اعتبر هذه الكلمات هجوماً شخصيا عليه، من القاعة ولحق به الوفد المصري. وقال الملك حسين الذي بدت على محياه علائم القلق كان قد تبعه بعد وقت قصير:
– لا يمكن السكوت على كلام كهذا. سوف أعود إلى مصر. وفي محاولته تلطيف الأجواء، اقترح الملك حسين تنظيم لقاء مع الرئيس العراقي لإزالة سوء التفاهم. فرفض مبارك أول الأمر هذا الاقتراح بشدة ثم عاد واقتنع بالحجج التي قدمها الملك الأردني. وهكذا اجتمع الثلاثة مساء 24 في القصر الهاشمي حيث كان الملك حسين يقطن قبل مصرع زوجته الملكة عالية إثر حادث تحطم طائرة هليكوبتر. كان جو اللقاء متشنجاً شديد الوطأة. وبدل أن يحاول صدام حسين تهدئة الأمور أعلن مطالب محددة وتكلم بلهجة لا مجال للمسايرة فيها وأشار إلى 30 مليار دولار من الديون التي كانت العربية السعودية والكويت قد منحتها للعراق خلال الحرب مع إيران. وقال: “إذا لم يلغوا تلك الديون ويقدموا لي 30 مليار دولار إضافية سوف أقوم بالانتقام”. ولما استبد الغضب بمبارك قال: “إن مطالبك غير معقولة. وسوف تخلق متاعب كثيرة”. ثم خرج من الاجتماع وعاد إلى القاهرة. فاضطر الملك حسين إلى الغاء اليوم الثاني من مناقشات المجلس. برغم أن خطاب صدام أثار موجة عارمة من الاعجاب والاستحسان لكنه في الوقت ذاته أثار القلق وخصوصاً في الكويت والسعودية اللتين كانتا تخشيان قيام بغداد بهجوم مباغت بالصواريخ يتبعه اجتياح شامل أو القيام بسلسلة من الأعمال الارهابية تستهدف أفراداً من الأسرتين المالكتين. وفي الرياض، بادر المسؤولون السعوديون إلى الإتصال بشعبة وكالة الاستخبارات المركزية فيها وأبلغوها تهديدات صدام حسين. وقامت هذه الشعبة، بدورها، بنقل المعلومات إلى مركز القيادة العامة في لانغلي قرب واشنطن. ولكن لم يصدر أي رد فعل من الادارة الأميركية. وكانت النتيجة العملية الوحيدة هي قرار وكالة الاستخبارات المركزية بوضع العراق تحت الرقابة الدائمة وتكثيف عملية جمع المعلومات حوله. وقد واجهتها في تحركها هذا صعوبة الركون إلى مصادر معلومات جديرة بالثقة. لأن السيطرة التامة على قنوات السلطة في بغداد كافة كانت معقودة بحزم لصدام حسين ولأفراد أسرته عن طريق البوليس السري الذي يتمتع بحضور كثيف وفعالية كبيرة. وكان وليم كيسي مدير وكالة الاستخبارات المركزية في عهد ريغن قد اعترف بأنه ليس للوكالة عميل ماهر واحد في العراق وأن الوضع لا يزال على حاله.
وفي تلك الأثناء كانت العواصم العربية الرئيسية تتداول تقريراً سرياً حول الوضع الاقتصادي في العراق وضعه مصرفي من أصحاب النفوذ في الشرق الأوسط. يست%D