بيار سالينجر – أريك لوران:
هناك مراقب آخر للخلافات المتفاقمة داخل “الأسرة العربية” التي كان صدام كثيراً ما يشير اليها في خطاباته وأحاديثه الخاصة وهو الملك حسين، فخلال حكمه الذي امتد 37 عاما ولفت الأنظار بضعفه من ناحية وبقدرته على البقاء من الناحية الأخرى كان اكثر إحساساً من أي شخص غيره بالمؤشرات التي تنذر بالأزمات الوشيكة. كان يدرك أن تعرض المنطقة لهزة سياسية أخرى قد تعرض وجود بلاده ذاته للخطر. فالأردن الذي يضم ثلاثة ملايين من السكان -60% منهم من الفلسطينيين- ويفتقر إلى الموارد يمكن إزالته عن الخريطة بسهولة. وقال الملك حسين لأحد زائريه بصوت رزين لا أثر فيه للانفعال:
“إنني أشعر بتزايد التوتر على نحو شبيه بما حدث قبيل حرب عام 1967. ولم أشعر خلال السنوات الأربعين الماضية بأن المنطقة بلغت مفترق الطرق الذي تشهده الآن”.
وكان الملك حسين يتحدث ووراءه صورة لصدام حسين. كان الرئيس العراقي حليفا وفي الوقت ذاته مصدر قلق للملك حسين، إذ كان شريكاً لا يمكن للأردن الضعيف أن يسيّره وزعيماً قد يزعزع توازن القوى الهش في المنطقة بطموحاته المعلنة.
وبعد فشل لقاء عمان في 24 فبراير اقترح الملك على الرئيس العراقي أن يقوم بنفسه بجولة تشمل دول الخليج في محاولة منه للسعي إلى اتفاق بين الكويت والعربية السعودية والعراق. وبالفعل قام في 26 فبراير برحلة استغرقت ثلاثة أيام وشملت مختلف عواصم المنطقة وأجرى خلالها محادثات مكثفة مع الزعماء الخليجيين، ثم عاد إلى عمان في الأول من آذار منهوك القوى. وفي صباح الثالث من آذار اتصل به صدام حسين وقال “الطائرة في طريقها إليك أنا في انتظارك ببغداد”.
اجتمع الرجلان أربع ساعات قدم خلالها الملك حسين تقريراً مفصلاً عن جولته، وسرعان ما تبين ان المفاوضات وصلت إلى الطريق المسدود، لأن الملك الهاشمي لم يتلق أي اشارة إيجابية من زعماء الخليج فيما يتعلق بأهداف صدام حسين الثلاثة: تسوية الخلافات الحدودية مع الكويت وبالأخص حقول الرميلة الغنية التي تقع في المنطقة المتنازع عليها. الموافقة على تأجيره جزيرتي وربة وبوبيان اللتين تؤمنان له منفذاً على الخليج، وتسوية مشكلة الديون المتراكمة على العراق خلال الحرب مع إيران.
وأبلغ الملك حسين الرئيس العراقي أن أمير دولة الكويت يرفض المفاوضات المباشرة حتى يعترف العراق رسمياً بسيادة واستقلال الكويت. ومن الجدير ذكره هنا ان حكومة بغداد كانت قد اعترفت عام 1963 باستقلال الكويت إلا أن مجلس الثورة لم يلبث أن الغى هذا القرار. لم يظهر الغضب على وجه صدام حسين الذي كان جالساً على كنبة واسعة ومريحة، يشعل بين الحين والآخر سيجارة، ويتابع باهتمام شديد ما يقوله الملك الهاشمي كما لو كان يتوقع تلك النتيجة السلبية.وعند نهاية الاجتماع عبر صدام عن جزيل شكره لزائره على الجهد الذي بذله، وأبلغه أنه يأمل “مع الوقت أن تسود الحكمة والارادة الطيبة بالنسبة لهذا المسألة” ولم يكن من الأمور العادية صدور مثل هذه الكلمات الرصينة التي تغلب عليها روح التوفيق عن رجل عود زملاءه على الخوف من نوبات غضبه (وكان حسني مبارك الذي لم يُخف نفوره من صدام قد وصفه أمام عدد من الزعماء العرب بأنه “مضطرب الشخصية”). ولم تكد تمضي ثلاثة أيام على عودة الملك حسين حتى دعا صدام جميع أعضاء القيادة العليا إلى اجتماع سري وأمرهم بأن يضعوا الخطط لحشد القوات على الحدود مع الكويت. وسرعان ما اشتد التوتر. وفقد الكويتيون بعد النظر الذي كانوا يتحلون به. فبالرغم من أن الفرق العراقية لم تكن قد تحركت بعد باتجاه الحدود فإن مسؤولاً كويتيا كبيراً أسر للأردنيين خلال مروره بعمان بأن “صدام حسين لا يريد الجزيرتين وحدهما بل الكويت برمتها”.
الفصل الثاني
تاريخ يسوده العنف
ظلت لندن طوال قرن من الزمن تعتبر الخليج أرضا بريطانية تتيح لها السيطرة على الطريق إلى الهند والشرق الأقصى. وتضافر عزم بريطانيا الواضح على أن لا يكون لغيرها نفوذ في المنطقة مع دهاء دبلوماسييها على زرع بذور النزاع الحالي.
وحتى الحرب العالمية الأولى كان العراق والكويت يشكلان جزءاً من الامبراطورية العثمانية. والواقع أن الكويت بمساحتها الصغيرة البالغة حوالي 10.000 ميل مربع كانت تابعة لولاية البصرة. وفي عام 1913 وبينما كان يشتد قرع طبول الحرب في أوروبا وقع الانجليز والأتراك اتفاقية تمنح الكويت الحكم الذاتي. وفي خضم الحرب التي قاتل فيها الأتراك إلى جانب الألمان اعترفت لندن بإمارة الكويت وبحدودها واستقلالها عن الامبراطورية العثمانية. على أن تجزئة هذه الامبراطورية التي أوجدت لبريطانيا حليفاً استراتيجيا لم ترض العراقيين الذين انكروا حرمانهم من منفذ إلى الخليج وفقد منطقة لم يسبق أن كانت تتمتع بوجود مستقل. ثم إنه كان هناك سبب آخر لغضب العراق الذي وقع عام 1918 تحت الانتداب البريطاني. ففي عام 1925 أجبرت حكومة بغداد على توقيع اتفاق مع كونسورتيوم ضخم للشركات باسم شركة البترول العراقية (lpc). وأكدت الاتفاقية أن الشركة ستظل بأيدي البريطانيين وعلى أن يكون مديرها من رعايا بريطانيا وأن يظل الامتياز نافذاً إلى عام 2000 وهكذا أطلقت يد الشركة في استغلال أكبر حقل للنفط في التاريخ والحصول على أرباح خيالية. والواقع أن الكيان العراقي كان كياناً مصطنعاً كالكويت وكحدود الدول في المنطقة. ففي أعقاب اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت الغنائم من الدولة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا جرى إنشاء العراق من ثلاث ولايات تركية وهي بغداد والبصرة والموصل. وقد لخص أحدهم هذا الوضع تلخيصا رائعا بقوله: “لقد كان العراق من صنع تشرتشل الذي خطرت له فكرة جنونية وهي الجمع بين حقلي نفط متباعدين وهما كركوك والموصل وذلك بدمج ثلاث فئات من الناس وهي الأكراد والسنة والشيعة”.
وربما كانت هذه الولادة الصعبة غير المتوازنة هي التي جعلت من تاريخ العراق الحديث سلسلة متواصلة من أعمال العنف. وفي عام 1958 أطاحت الثورة بالحكم الملكي الموالي للغرب وقتلت الجماهير الغاضبة الملك فيصل ورجمت رئيس وزرائه نوري السعيد وقضت عليه. وبعد ذلك بسنتين نجا عبد الكريم قاسم زعيم الثورة بصعوبة من محاولة لاغتياله. وكان بين الذين حاولوا اغتياله شاب في الثانية والعشرين من عمره وهو صدام حسين الذي استطاع الهرب إلى سوريا بالرغم من إصابته بجروح. وفي عام 1962 رفعت الجماهير الغاضبة رأس قاسم على منخس وطافت به الشوارع. وفي عام 1968 استولى حزب البعث على السلطة. وكان هذا انتصاراً لصدام الذي اعتبر رجل النظام القوي. وبالرغم من أنه احتل منصب نائب رئيس مجلس الثورة فإنه كان أقوى رجل في البلاد. وكان ولا يزال يسيطر على مختلف دوائر الأمن ثلاثة من اخوته غير الاشقاء وهم برزان وسبوي ووطبان. أما صهره حسين كامل المجيد فكان المسؤول المباشر عن المذابح التي تعرض لها الأكراد وعن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد السكان المدنيين. وهو مفتاح كل مشتريات الدولة من السلاح ويتقاضى عمولة على كل صفقة. ويقال إن مكاسبه من شراء 120 من صواريخ سكود عام 1987 بلغت ستين مليون دولار. كان يجمع بين هذه المجموعة الصغيرة المتربعة على سدة الحكم لا دمها فقط بل ودم الآخرين. فعُدي الابن البكر لصدام ظل يضرب حارسا من حراس أبيه أمام ضيوفه حتى قضى عليه. فغضب صدام وهدد بقتله. فطلبت زوجته ساجدة من أخيها عدنان خير الله وزير الدفاع التوسط لدى صدام. وبالرغم من أن هذا عفا عن ابنه فلم يغفر إطلاقا لوزير الدفاع مع أنه صهره وقريبه. فأمر بقتله. لكن قيل إنه قتل بحادث تحطم طوافة. إن العنف هو سلاح صدام حسين الرئيسي. وعندما بلغ قمة السلطة احتفل بالمناسبة بإعدام 21 من أعضاء وزارته وبينهم واحد من أقرب أصدقائه إليه وقال عنه ” كان أقربهم إليّ لكنه ابتعد عني”.