د. علي القاسمي*
صدرت للأديب الصحفي العراقي المقيم في المغرب، فيصل عبد الحسن، رواية جديدة عنوانها ” تحيا الحياة “؛ وهي روايته الخامسة، بالإضافة إلى خمس مجموعات قصصية وعشرات المقالات الأدبية والثقافية المنشورة في الدوريات العربية المختلفة. وقد صدرت الرواية عن دار (مومنت) في لندن للنشر الرقمي والورقي، وتقع في 226 صفحة من الحجم المتوسط، وبطباعة جيدة تكاد تخلو من الأخطاء المطبعية واللغوية، ولكنها سيئة الإخراج؛ إذ نجد الحرف صغيراً، والهوامش ضيقة، وحوالي 33 سطراً ( بدلاً من حوالي 20 سطراً) في الصفحة الواحدة من مقاس 21 x 14 سم ، ما يؤثر سلباً على مقروئية الكتاب. ولو أُخرجت الرواية بالطريقة المعتادة لاستغرقت 400 صفحة على الأقل. وسنتناول في قراءتنا كلاً من الروائي والرواية.
الروائي:
على خلاف النقّاد الذين ينادون بـ ” قتل المؤلِّف” ويرفعون شعار ” النص ولا شيء غير النص”، نرى أن النص هو مجرد عنصر من عناصر العملية التواصلية بين الكاتب والقارئ التي تشتمل على خمسة عناصر أساسية هي: المرسل، والمتلقي، والرسالة وقواعد صياغتها، والسياق، والوسط أو قناة الاتصال. ولا يكون النقد متكاملاً ما لم يُلمّ بجميع هذه العناصر، من أجل تحقيق جمالية التلقي لدى القارئ. لهذا فعندما ندرّس الأدب الفرنسي، مثلاً، للطلاب، ندرسهم في الوقت نفسه، تاريخ فرنسا وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليتعمق استيعاب الطلاب للنصوص الأدبية بعد وضعها في سياقها العام.
ولد الروائي فيصل عبد الحسن في البصرة ونشأ فيها، وهذا يفسّر لنا معرفة الكاتب بالتاريخ السومري، ووقوع نصف أحداث الرواية تقريباً في البصرة، وتسمية الكاتب لحاراتها وشوارعها ودروبها الضيقة، وتصويره الدقيق لمشاعر أهلها عندما يصيبها الخراب والدمار. وقد تعرضت هذه المدينة العريقة خلال تاريخها الطويل للخراب مرات عديدة، حتى ذهب ذلك مثلاً ” بعد خراب البصرة”.
درس فيصل عبد الحسن الهندسة الميكانيكية في جامعة البصرة وحصل على بكلوريوس سنة 1977، لكن حبّه للأدب وشغفه بالكتابة جعلاه يتخلّى عن المهنة التي أُعدّ لها، وينخرط في عدد من الدورات التدريبية في الإعلام والصحافة ووسائل الطباعة والنشر في البصرة وبغداد وفلورنسا، ويعود إلى مقاعد الدراسة مرة أخرى، ليدرس الإعلام في جامعة المستنصرية ببغداد مدة سنتين ويحصل على دبلومٍ عالٍ فيه سنة 1995. وفيما عدا عامين أمضاهما مهندساً في وزارة الإسكان في البصرة ( من 1978 إلى 1980)، فإنه اشتغل معظم حياته محرراً في الصحافة المكتوبة أو معدّاً للبرامج الإذاعية والتلفزيونية. غادر العراق سنة 1995 إلى ليبيا ليعمل أستاذاً في معهد عالٍ في مدينة سبها مدة سنتين، ثم استقر في المغرب حيث يعمل مراسلاً صحفياً حتى االيوم.
وهذا يذكرنا بالروائي الكولمبي الشهير غابريل ماركيز ( 1927 ـــ 2014) الحائز على جائزة نوبل في الآداب الذي ترك دراسة الحقوق في الجامعة من أجل الصحافة والأدب، وبكثيرين غيره من الأدباء.
والقارئ يرى أثر تخصُّص فيصل عبد الحسن في الهندسة واضحاً في روايته ” تحيا الحياة” وغيرها من كتاباته، إذ يميل إلى استخدام الأسلوب العلمي الذي يتوخى الإيجاز، ووضوح اللغة وبساطتها، ودقة التعبير أي التطابق بين المفهوم واللفظ الذي يعبِّر عنه، وضبط المساحة المخصصة لكل جزء من أجزاء الرواية.
أمضى فيصل عبد الحسن الخدمة العسكرية الإلزامية مجنداً في الحرب العراقية الإيرانية ( 1980 ـــ 1988)، واستثمر خبرته تلك في روايته ” أقصى الجنوب” التي فازت بالجائزة الأولى في مسابقة الرواية في العراق لعام 1986 ، كما استثمر خبرته تلك في روايته الحالية ” تحيا الحياة”.
وقد رفده عمله في الصحافة بفيض من المعلومات غير المتاحة لغيره من الكتّاب والتي تتعلق بموضوع الرواية.
عتبات الرواية:
تعني “العتبات” في النقد الحديث تلك النصوص القصيرة الهامشية التي تسبق النص المركزي للرواية أو تلحقه. مثل العنوان وتصميم الغلاف، والإهداء، والاستشهادات بالحكم والأقوال المأثورة، والمقدمة، وكلمة الناشر على الغلاف الخلفي، وغيرها. ويمر القارئ بهذه النصوص الهامشية قبل ولوج النص المركزي كما يمر بعتبة الدار قبل دخولها. وللعتبات علاقة عضوية بالنص المركزي، وتشكل جزءاً مهماً من إستراتيجية الروائي. وهذا المصطلح من وضع الناقد الفرنسي جيرار جينيت الذي خصّه بكتاب كامل عنوانه ” عتبات” صدر في باريس سنة 1987. وسرعان ما تلقفه النقاد وذاع صيته حتى إن بعضهم اختص بدراسة العتبات أو بعتبة واحدة منها، كالعنوان مثلاً.
العتبة الأولى في هذه الرواية هي عنوانها ” تحيا الحياة “. ولعل اختيار العنوان الجيد الناجح الذي يجذب القارئ من أصعب القرارات التي يتخذها الروائي. وعندما نقرأ الرواية نجد أن العنوان لا يطابق فضاءها الزاخر بالظلم والجور والفقر، ولا يتماشى مع ما تشتمل عليه من قتل وموت. لكن الروائي أختار ذلك العنوان عن قصد وسابق تصميم.. فالمؤلف اختار عنوانه ذاك للتعبير عن تعلق الإنسان بالحياة، والأمل الذي يخامر نفوس البائسين والمضطهدين في حياة أفضل تحفظ كرامتهم الإنسانية، وتحقق لهم الإنصاف والمساواة بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الانتماء العقدي أو الجهوي. وهذا ما يسميه علم النفس الحديث بـ (التفكير الإيجابي) الذي يساعد على تحسين الأوضاع وترقية الحياة، أو كما قال الرسول (ص): “تفاءلوا بالخير تجدوه”:
” فيقولون بينهم ” إني التقيتُ اليوم بتحيا الحياة، وحادثته حول كيت وكيت، فيفهم السامع أنه يقصد صديقهم المدرس المتقاعد” لترديده جملة ” تحيا الحياة” طوال يومه بسببٍ أو من دون سبب، فقط ليزرع الأمل في نفسه والناس، ويطرد اليأس مما يعيشه الجميع من ظلم.” ( تحيا الحياة ص 114)
وعندما نقلب صفحة العنوان، تواجهنا عتبة الإهداء وهذا نصه:
” إلى أمل المحرومين فرج المكروبين والباحثين عن العدالة والحرية والمحبة والإخاء والمساواة، مولانا المهدي المنتظر عليه وعلى آبائه أفضل تحية وسلام.” ( تحيا الحياة، ص 3)
وهذه العتبة لا تدعم عتبة العنوان فحسب، بل ترهص كذلك للأجواء الأليمة المرعبة التي تحبل بها الرواية. إنها إنذار بوقوع أحداث قاسية يعجز الناس عن مجابهتها، فيتطلعون إلى منقذ يخلصهم مما يحيق بهم من جور وعسف وتنكيل. فعقيدة المنقذ المنتظر لا تقتصر على الإسلام بمختلف مذاهبه، بل نجدها في جميع الديانات القديمة والوضعية والسماوية، كالسومرية ( منقذها ديموزي)، والمصرية القديمة ( النيل)، والهندوسية ( كرشنا وراما)، والبوذية (بوذا)، والزرادشتية ( سوشيانت)، واليهودية ( المسيح المنتظر)، والمسيحية ( المسيح ).
فعندما يعمّ الظلم والجور، ويسود الفساد والخراب، ويتحكّم الطغيان في رقاب الضعفاء، وتُنتهك الأعراض والحرمات؛ تشرئب أعناق المضطهدين إلى منقذ منتظر يخلّص العالَم من وضعه البائس، ويهدي الناس إلى سواء السبيل، ويرجِّح مفهوم الأخوَّة الإنسانية، وينشر العدل والإحسان في الأرض بعد ما مُلئت جوراً وظلماً.
ونظراً لأن عقيدة المهدوية موجودة في كل مكان وزمان، يحقّ للمرء أن يتساءل ما إذا كانت النفس البشرية مجبولة على الشر أكثر منها على الخير، وأن الفجور يسبق التقوى، وأن الظلم صفة لازمة لها، أو كما قال المتنبي:
الظلُمُ من شيَمِ النفوِس فإن تجِدْ ذا عِـــفَّـــةٍ، فلِعلَّةٍ لا يظلمُ
وفي الصفحة الخامسة، نجد عتبة أخرى تتمثل في ثلاثة استشهادات، آخرها لجمال الدين الأفغاني، وهو:
” أمةٌ تطعنُ حاكمها سراً وتعبده جهراً، لا تستحق الحياة”
وهذا الاستشهاد ذو علاقة وثيقة بصناعة الطاغية، وهو موضوع الرواية.
ويضع الروائي فيصل عبد الحسن النقّاد المتخصِّصين في العتبات في ورطة حقيقية، فهو لم يكتب مقدّمة للرواية، ولكنه كتب فصلاً افتتاحياً يسرد فيه كيفية إخراج مخطوط الرواية من الحدود، وعبور السارد به إلى خارج البلاد، على الرغم من التفتيش الدقيق والمهين والجارح للكرامة الإنسانية الذي يتعرَّض له المواطنون المسافرون في مركز الشرطة الحدودي. وهذا الفصل الروائي هو في صلب موضوع الرواية، فهل يعدّه هؤلاء النقاد الكرام من العتبات أم من النص المركزي للرواية وموضوعها؟.
موضوع الرواية:
تدور الرواية حول حياة أحد الطغاة في بلد عربي ينتشر فيه الفقر، ويعشش فيه الجهل، وتقيم فيه الأمراض إقامة دائمة منذ قرون. وقد كُتبت الرواية في سياق سياسي واجتماعي عربي اتسم بتسلط الطغاة على الحكم في معظم البلدان العربية عن طريق الانقلابات العسكرية، وتحكّمهم بزمام الأمور مدة ثلاثين أو أربعين عاماً، وتخطيطهم لتوريث الحكم لأبنائهم، على الرغم من كرههم المتأصِّل لشعوبهم المغلوبة على أمرها.
فالشعوب المتخلفة الجاهلة الفقيرة هي التي تصنع طغاتها، وتحوِّل حكامها إلى أنصاف آلهة، وتطلق عليهم ألقاباً تتملقهم مثل ” الزعيم الأوحد” و” القائد الضرورة” و “الرئيس الملهم”، وتعقد المهرجانات لإلقاء الخطب الرنانة في تمجيده والقصائد العصماء التي تخاطبه، كما خاطب الشاعر ابن هانئ الأندلسي الخليفة الفاطمي:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ فاحكمْ فأنت الواحدُ القهّارُ
وهذا يذكّرنا مرة أخرى بالروائي الكولمبي غابريل ماركيز الذي نشر روايته الرائعة ” خريف البطريرك” في سياق اجتماعي وسياسي مماثل سنة 1975 حينما كانت أقطار أميركا اللاتينية في قبضة انقلابيين عسكريين دمويين طغاة. فسخِر منهم في روايته تلك، إذ صوَّر الطاغية كائناً أسطوريا يعيش خالداً مخلّدا إلى الأبد خلافاً لجميع نواميس الطبيعة وقوانين الكون. بيد أنه، على الرغم من مظاهر الجبروت والأبهة، إنسان ضعيف رعديد، تتفاقم عزلته ويتصاعد خوفه.
وهكذا فالسياق السياسي والاجتماعي هو الذي يؤثر في الأدب وتوجهاته وموضوعاته في كل فترة تاريخية. ورواية فيصل عبد الحسن ” تحيا الحياة ” يجب أن توضع في السياق الذي أفرزها.
وعلى الرغم من أن الكتابات غير المتخصصة في الصحافة وغيرها تخلط بين مصطلحات ” دكتاتور” و ” مستبد” و ” حاكم شمولي” و ” طاغية “، وتعدّها مترادفات، لأنها جميعها تدلّ على حاكم يمسك بيديه جميع السلطات ويتخذ القرارات بنفسه على خلاف الأنظمة الديمقراطية التي تقوم على المؤسَّسات، فإن أدبيات العلوم السياسية والقانون الدستوري، تفرّق بين هذه المصطلحات الأربعة التي تعبّر عن مفاهيم متباينة. فالدكتاتور، مثلاً، يتسنّم الحكم بناء على قرار من الجمعية الوطنية لأجل إنقاذ البلاد من أزمة تمر بها. والحاكم الشمولي هو صاحب مشروع اجتماعي أو اقتصادي يريد تعميمه في جميع مناحي الحياة في البلاد. والمستبد يعدُّ الشعب الذي يحكمه من رعيته، ويحاول القيام بإصلاحات ليبدو راعياً لمصالح شعبه مدارياً لرعيته. أمّا الطاغية فلا يرعى إلا أهواءه ونزواته. والخاصية الرئيسية للطاغية هي كرهه العميق للشعب واحتقاره، ونهب خيراته، وكتم انفاسه، والتنكيل به، والإمعان في إفقاره وتشريده وإذلاله؛ يساعده في ذلك جهاز استخباراتي قوي، وجماعة منتفعة:
” الحصار الاقتصادي بدأ يفعل فعله الحقيقي المرعب على الناس، وفي ذلك المساء المشئوم، ظهر مذيع التلفزيون بوجهه الكئيب… وقرأ نص القرار الرئاسي بقطع صيوانيّ الأذن لكل هارب من الخدمة العسكرية. وتفويض أفراد الحزب الحاكم وأمن الدولة بالتفتيش عن الهاربين، وجعل مكافأة لكل فرد من الحزب، ممن يقبض على هارب، وينفذ فيه القرار الرئاسي مبلغ عشرة آلاف دينار.” (تحيا الحياة، ص 68)
يحيط الطاغية نفسه بشلة من المنتفعين من كتّاب وشعراء وأدباء ومهرجين، يُكثرون من تنظيم المهرجانات في مديحه والتغني ببطولاته أو شرح أفكاره الواردة في كتابه الأخضر أو الأسود الذي ألّفه أحدهم له، ويحوِّلون حروبه الخاسرة إلى فتوحات وانتصارات باهرة، ويصورون الدم المراق في هذه الحروب باقة زهور حمراء، ونياشين زاهية الألوان تُعلّق على صدر حبيبهم الطاغية.
الدكتاتور أو المستبد مثلاً، قد يأمر بإعدام معارضيه الذين يخشى منافستهم له، أما الطاغية فيتفنن في تعذيبهم وقتلهم بأبشع الوسائل. غاية الطاغية الرئيسية هي الاستهانة بالبشر والبطش والتنكيل بهم، فهو رجل سادي النزعة، يتلذَّذ بإلحاق الأذى بالآخرين وإنزال العقوبات القاسية بهم لأدنى شبهة في ولائهم له:
” الآلات الجديدة التي نصبت في البهو الواسع للوصول مع الضحايا إلى اعترافات مكتوبة بكل التفصيلات المطلوبة: كلبات العنق، الأحزمة الناقلة، وحبال الربط المطاطية، … سكاكين فتح الجروح المختلفة في السيقان والأيدي أو مناشير قطع الأصابع…كلبات الأضراس … مكاوي الطحال … حقن العضو الذكري للمتهم … خرّاط المناخير…
وهزّ الرئيس رأسه وهو ينظر إلى الأجهزة باهتمام كبير …” ( تحيا الحياة ، ص 39 ــــ 40)
” ظهر للوزراء… لوح زجاج ضخم يحوي خلفه ماء وأسماك قرش، … وسط تصفيق الحاضرين، أعطى الرئيس إشارته، أُنزلت الأقفاص إلى الماء بوسائل ميكانيكية وداخلها رجال ( من المشكوك في ولائهم للرئيس) … انفتحت الأقفاص وهجمت أسماك القرش على الضحايا، وانتثر الدم وانتشر بعد ذلك كالضباب الأحمر…” ( تحيا الحياة ص 94 ــــ 95) وهكذا نرى أن سادية الطاغية ومساعديه من الجلادين، تتفتّق عن وسائل وأدوات للتعذيب والتنكيل يعجز عنها حتى الخيال الواسع الوثّاب للكاتب السوداوي فرانز كافكا (1883 ــ 1924) في قصته الشهيرة ” في مستوطنة العقاب”. فوسيلة التعذيب والقتل التي ابتكرها كافكا بسيطة بدائية بالمقارنة مع آلات طاغيتنا المتطورة ووسائل تنكيله الشيطانية. فقد كانت آلة كافكا مجرد مكينة كبيرة لها أسنان حادة تنشب بالمتهم فتقتله في الحال.
بيدَ أن السادية، كما بيّنَ علماء التحليل النفسي، تحمل معها الماسوشية في الوقت نفسه. فعندما يرغب الطاغية في تعذيب الآخرين وتحطيمهم، تنتابه في الآن ذاته، في اللاشعور، الرغبةُ في تدمير نفسه. ولهذا فإن الطغيان قصير العمر إذا ما قورن بالدكتاتورية والاستبداد. فالشعب سرعان ما يطيح بالطاغية. أو كما يقول محمد مهدي الجواهري: ” باقٍ، وأعمارُ الطغاة قصارُ”. والطاغية يدرك ذلك:
” يتمتم ( الرئيس) بصوت مسموع (قبل أن يقتل خال أولاده):
ــ ما أقذر عمل الخلفاء والحكام والرؤساء … عملهم أردأ من عمل الكناسين، وإذا مارسنا السلطة في هذا البلد، لا نستطيع تركها أبداً إلا إذا ساروا بنا إلى اللحد حتف أنوفنا، أو إلى المشنقة قبل اللحد! ” ” تحيا الحياة ص 159″
أسلوب الرواية وبناؤها:
قبل كل شيء، ينبغي التنويه بلغة الرواية الفصيحة السليمة الصافية الخالية من التعبيرات العامية الدارجة، في الوقت الذي تزخر فيه كثير من الروايات بالدارج من الكلام. ولقد أسهمت لغة الروائي المطبوعة الراقية في زيادة جمالية التلقي.
تنتمي هذه الرواية في أسلوبها وبنائها إلى مدرستين سرديتين هما: الواقعية القذرة والواقعية السحرية.
والواقعية القذرة حركة أدبية أميركية معاصرة يلتقط كتّابها الجوانب المبتذلة الدنيئة الوسخة في الحياة لتدور حولها قصصهم ورواياتهم، مثل الزوج المخدوع، والأم غير المتزوجة، والمشاجرات الزوجية، وسارق السيارات، واللصوص عامة. وظهر المصطلح ” الواقعية القذرة” في الولايات المتحدة سنة 1983. ويعدُّ الكتّاب الأميركان : تشارلس بوكويسكي ( 1920 ـــ 1994)، وتوبياز وولف (1945 ــــ )، وريتشارد فورد ( 1944 ـــ )، في طليعة الأدباء المنتمين إلى هذه الحركة. وقد ترجمنا قصصاً نموذجية لتوبياز وولف وريتشارد فورد في كتابنا ” مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأميركية المعاصرة”. ويتميز الأسلوب في هذه المدرسة السردية بالاقتصاد في استعمال الكلمات، والسخرية، والوصف الخارجي، وتجنب الحوارات الداخلية، وندرة استعمال الظروف والاستعارات الموسعة والصور المجازية:
” أعمامي سبعة … رأيتهم على ضوء شعلة النفط المسودة الحواف، وهم يستعدّون للذهاب لسرقة المعدان، ونهب جواميسهم وخرافهم وبقرهم ودجاجهم وذهبِ نسائهم. وهم يدعون الله مخلصين أن يوفِّقهم في غزوتهم، ويعمي عيون المعدان فلا يرونهم… ورأيتُ جدتي وسطهم بملابسها السوداء ولفافة رأسها البيضاء توقظ هذا وتجر الغطاء عن ذاك، وتشجع هذا وتنغز ذاك بكوعها. وعندما خرجوا من الدار توضأتْ وصلت، ودعت لهم الله أن يعيدهم سالمين غانمين…” ( تحيا الحياة ص 19)
أما مصطلح ” الواقعية السحرية ” فقد كان يطلق على بعض الفنون التشكيلية في ألمانيا، ثم في سنة 1955 أخذ يشير إلى حركة أدبية في أميركا اللاتينية. ويعدُّ بعضُ النقاد الكاتبَ الأرجنتيني خورخه لويس بورخيص ( 1899ـــــ 1986) الأب الروحي لها. وقد تجسّدت هذه المدرسة السردية بأفضل صورها في رواية ” مائة عام من العزلة “( 1967)، للكاتب الكولمبي ماركيز صاحب رواية ” خريف البطريرك” (1975) التي أشرنا إليها سابقاً. وتستخدم هذه المدرسة العجائبَ (الفنتازيا) والخوارق والعناصر السحرية والأساطير كجزء من فضاء واقعي اعتيادي. فالعنصر المميز للواقعية السحرية هو اختراق حدث يصعب تصديقه لسياق واقعي طبيعي.
ففي رواية “تحيا الحياة”، هناك سرد لطفولة الطاغية الذي كان يتيماً مشرداً وعمل في صباه مساعداً لوالد السارد في حافلة نقل بائسة، ثم قام بسرقة الحافلة. يبد أن هذا الصبي يلتقي بامرأة عجوز تعطيه حصاة سحرية تحقق له كل ما يرغب في من خير وشر:
” قالت العجوز: سأعطيك شيئاً. أنا هنا منذ ليلتين أنتظر قدومك.
أراد أن يقول لها وهل تعرفينني؟ لكنه لم يقل شيئاً. مدت يدها إليه بشيء، أخذه منها وجسّه بأصابعه، وجده شيئاً صلبا كالحصاة… ــ اخدمها تخدمك! احتفظ بها وستصل إلى كل ما تريد من هذه الدنيا… سيتحقق لك كل ما تطلبه.
ومنذ ذلك اليوم بدأ يطلب من حصاته ما يتمناه…” ( تحيا الحياة ص 43ـــ44)
يقوم بناء رواية ” تحيا الحياة ” على الثنائيات أو المتضادات بحيث تتجلى مقاصد السارد ويتعاظم أثر السرد على القارئ، عندما ينتقل من أمر إلى ضده، طبقاً لمقولة ” وبضدِّها تتمايزُ الأضدادُ”، أو كما يقول دوقلة المنبجي في وصف حبيبته:
فالوجهُ مثل الصبح مبيضٌّ والشَّعرُ مثل الليلِ مســــودُّ
ضدّان لما استجمعا حَسُنا والضدُّ يُظهرُ حُسنَه الضدُّ
والثنائيات الأساسية التي اشتغلت عليها هذه الرواية هي الحياة والموت، وفقر الناس المنكودين في مقابل غنى الطاغية وأهله وعشيرته، وفاقة الشعب وعوزه في مقابل بذخ الطاغية وتبذيره، وعذاب المتهمين وآلامهم في مقابل سادية الطاغية وسعادته برؤية معاناتهم، والحياة الخَفِيّة لحكام العراق السابقين، وهكذا. ومن أجل إظهار هذه الثنائيات بصورة جلية، لم يلتزم السرد بالتسلسل الزمني العمودي للأحداث، بل سمح بالارتداد والاسترجاع والتنقل بسهولة بين الأزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل. فالرواية مقسّمة إلى 121 جزءا متسلسلاً ولكن هذا التسلسل الرقمي لا يتفق مع التسلسل الزمني للأحداث والوقائع. وكثيراً ما تحتل الثنائيات أرقاماً متقاربة جداً. مثلاً في الصفحة 58 نجد الجزء رقم 22 يتحدث عن ليلة زفاف الابن البِكر للطاغية:
” في تلك الليلة الأسطورية، استمر الرقص والغناء والقصف حتى الهزيع الأخير من فجر اليوم التالي. وفي تلك الليلة سكرت السيدات وثمل السادة وانتشر الراقصون المترنحون على مساحة الحديقة، وكان قسم من السادة قد اقتادوا نساءهم ومرافقاتهم إلى غرف القصر العديدة.”
في حين يتحدّث الجزء رقم 23 في الصفحة ذاتها عن آثار الحصار الاقتصادي على عامة الشعب المغلوب على أمره: ” في العام الأول للحصار الاقتصادي الذي تعرّضت له البلاد، بدأ مرض غريب بالانتشار في الأحياء الشعبية بسرعة ودون سابق إنذار. لا تمكث جراثيمه طويلاً في الأجساد التي هدّها الجوع وجعلها جلداً على عظم…”
السخرية في الرواية:
قلنا إن السخرية من خصائص ” الواقعية القذرة ” التي تنتمي إليها هذه الرواية في شِقٍّ منها. ولكن السخرية ليست وقفاً على هذه المدرسة السردية، بل هي موهبة يمتلكها كبّار الكتاب الذين يتمتعون بذكاء فريد يمكّنهم من إدراك الصلات الخفية بين الظاهر والمستتر، والكشف عن الجانب المضحك في الحياة، وإبراز التناقضات المضحكة في الواقع.
ورواية ” تحيا الحياة”، من بدايتها إلى نهايتها، ينظمها حسّ زاخر بالسخرية من الواقع المر، تعبيراً عن الشعور بالعجز عن تغييره. بيد أن هذه السخرية قد لا تجعل القارئ يضحك ملء شدقيه، بقدر ما تشحذ عزيمته على تغيير تلك الأوضاع المضحكة. وبذلك يسهم الروائي في النضال من أجل غد أفضل، ولا تظل الرواية مجرد وسيلة للتسلية وتزجية أوقات الفراغ.
سأكتفي هنا بإيراد بعض المواقف الساخرة من الرواية:
1) ” وعندما جاء رجال الشرطة باحثين عن أعمامي وأبي ( لقيامهم بسرقة المعدان)، زغردت جدتي منبهة أهل الدار، فهرب أعمامي من أبواب وفجوات خلفية ومن خلال السطوح القريبة. واختفى أصغرهم في تنور الجيران، وأوسطهم في خم الدجاج، أو في تل التبن والقش، وبحث رجال الشرطة في الدار الفارغة من غرفة إلى غرفة ومن مجاز إلى ممر. ولم يجدوا أحداً، فأخذوا جدي بلحته البيضاء وعقاله قد سقط حول رقبته… وضربه رجال الشرطة بالخيزران على قدميه الحافيتين، واشترك في ضربه مفوَّض الشرطة السمين ونائبه القصير…”
2) يجلس الطاغية على ” الكرسي المذهَّب بملابسه العسكرية المزركشة، وصدره يمتلىء بالأوسمة والنياشين، وبإشارة من يده تُحرق المدن، ويُقتل الناس، وتتحول زرقة السماء إلى السواد … ويتحول (رئيس وزرائه) في نصف نهار صيفي إلى أجزاء مهضومة في عشرة كلاب مسعورة. وفكّر ( الطاغية) ساخراً من الحياة: أحقاً أن رئيس وزرائي المهذب تحول إلى أجزاء في عشرة كلاب مسعورة؟ يبدو أنًه تحوّل فعلا، فقد صارت هذه الكلاب أكثر هدوءاً وتعقلاً! “
( تحيا الحياة ص 25)
3) ” ولكن مستشاري الحزب والقيادة العليا فضّلوا أن لا تزج الدولة أنفها في أمور الرقص والفنون بشكل تفصيلي. لم يكن أحد يعرف أنها كانت رغبته؛ ولو عرفوا لجعلوا للموضوع تخريجاً منطقياً لتحقيق رغبات رئيسهم، كأن يقولوا إن الرقص الحديث يزيد من إنتاج الفرد، ويضيف شيئاً لإنتاج الشعب، ويزيد حوافز المواطنة، ويزيد العداء للرجعية، ويساهم في محو التخلف من البلاد.”
( تحيا الحياةن ص 33)
4) عندما يعتدي ابن الرئيس جنسياً على زوجة أبيه الثانية السرية، يستشيط الرئيس غضباً ويأمر بسحن ابنه في قفص من الحديد في حديقة القصر، وإطعامه من فضلات كلبه المتوحش سقر. ” صرخت سيدة القصر وقالت إنها لا تسمح بقتل ابنها من أجل إساءته لمومس، وأخذت تتصل بكل معارفها طالبة منهم الذهاب إلى زوجها، وطلب العفو للابن، وجنّدت الشعراء، فأخذوا يدبجون قصائد عصماء في مدح الرئيس، وعهده الزاهر، وعدالته، التي لا تضاهيها عدالة. وطلبهم عند نهاية كل قصيدة بالعفو عن أخيهم المسكين، الذي أخطأ مرة برمي الجمرات إلى غير موضعها، كما عبّر أحد الشعراء في قصيدة ميمية عصماء، يذكّره فيها بجل من لا يخطئ… وأوصت سيدة القصر طباخي القصر أن يقدموا للكلب أفضل الأطعمة التي تقدّم عادة لكبار ضيوف الدولة، ومضاعفة كمياتها لينال ابنها حصة وافية.”.
( حياة سابقة ص 193)
في هذه الأمثلة القليلة التي سقناها من عشرات، بل مئات، المواقف الساخرة في الرواية، نجد أن الروائي يوظّف تقنيات مختلفة لإنتاج السخرية. ففي المثال رقم 1، تنتج السخرية من تغيير وظيفة الزغرودة كعلامة للفرح إلى إنذار سري للتحذير من الشرطة، وكذلك في جعل ( الفلقة) المستعملة لعقاب صغار التلاميذ قديماً، وسيلة لعقاب شيخ هرم في القرن الحادي والعشرين.
وفي المثال رقم 2 تكمن السخرية في الكناية البعيدة المتمثلة في هدوء الكلاب المسعورة وسكوتها بعد نهشها رئيس الوزراء وازدراده، للدلالة على أن رئيس الوزراء ذالك كان مجرد دمية صامتة بيد الطاغية، لا يحل ولا يربط.
وفي المثال رقم 3، تحصل السخرية من التناقض المفاجئ بين رأي القيادة في الرقص بوصفه عملاً تافهاً شانئاً، وبين رأيها فيه بوصفه أساس تقدُّم العباد وسرّ تنمية البلاد، لو علمت أن الطاغية مغرم به.
وفي المثال رقم 4، تتبدّى السخرية في التورية المستعملة لنقل معنى عبارة “رمي الجمرات” من شعيرة مقدَّسة من شعائر الحج إلى دلالة على فعل الجنس المحرَّم، وكذلك في التناقض بين الوقع الأليم للبلاد وبين الصورة الزاهية التي يدبجها الشعراء في مدح الطاغية، وكذلك في الكلب المحظوظ الذي تُقدّم له وجبات فاخرة لا تقدّم عادة إلا لكبار ضيوف الدولة من الرؤساء والوزراء.
خاتمة:
خلاصة القول إن رواية ” تحيا الحياة” رواية حداثية، فذة في مضمونها الهادف، ولغتها الراقية، وتقنياتها السردية المتطورة. وقد أفادت من المدارس الأدبية المعاصرة في أسلوبها وبنائها. كما تمتاز بحسِّ السخرية التي تجلى في معظم صفحاتها بحيث غدت قراءتها متعة فريدة.
وتمثِّل هذه الرواية صرخة عالية ضد أنظمة الطغيان التي تُجذِّر عبادة الفرد، وتكرّس التخلُّف والجهل في بلداننا. وهي نقلة نوعية في الرواية السياسية العربية، التي ظهرت وتكاثرت منذ منتصف القرن العشرين، وتمثّلت في (رواية السجن) التي يرمز فيها السجن إلى الوطن، والسجّان إلى الحاكم، والسجناء إلى أبناء الشعب، كما في رواية ” الوشم ” لعبد الرحمن الربيعي، ورواية ” شرق المتوسط” لعبد الرحمن” منيف، ورواية ” المستنقعات الضوئية ” لإسماعيل فهد إسماعيل، ورواية ” السجن ” لنبيل سليمان، وغيرها. لقد نقلت ” تحيا الحياة” الروايةَ السياسية العربية إلى فضاء أرحب، ولمست الأسباب المباشرة في تخلّف البلاد العربية، وعرّت صناعة الطاغية بوصفها أم البلاء.
وتستحق هذه الراوية أن تُدرَّس في مدارسنا الثانوية لتعميم ثقافة حقوق الإنسان، والاحتفاء بالرأي الآخر، وتشجيع روح التسامح والأخوّة بين الناس، وجعل العلاقة بين الأفراد والدولة علاقة مواطنة قانونية ترتِّب حقوقاً وواجبات على الدولة والفرد، بغض النظر عن انتماء المواطنين العرقي أو العقدي أو الجهوي، لا علاقة العبيد بالسيد المهيمن.
* ناقد وباحث من العراق مقيم بالمغرب.