شكيب كاظم
بعد الخطأ القاتل الذي ارتكبه مستشار الرايخ الالماني الثالث ادولف هتلر بفتح جبهة اخرى في الحرب ضد الاتحاد السوفييتي في حزيران 1941، هو الذي اسكرته نشوة الانتصارات الصاعقة التي كانت تحققها جيوشه الباسلة، والمطيعة لاوامره طاعة عمياء، فها هي الدول تتهاوى تحت بساطيل جنوده حتى انه احتل بولونيا في بدء الحرب في عشرة ايام، وها هي فرنسة تتهاوى ولم يحمها خط ماجينو ذائع الصيت، فما ان فتح الجبهة ضد الاتحاد السوفييتي، حتى بدأت الدوائر تدور على الجيوش الالمانية، منذ معركة ستالينغراد الفاصلة، وبسبب قسوة الجو وبرودته التي تنخفض عشرات الدرجات تحت الصفر فادى الى صعوبة تموين الوحدات المتقدمة بالخدمات اللوجستية، ومن ثم وقوع قوات ضاربة مهمة في الاسر، وما يتركه الاسر في نفوس المقاتلين من هزيمة نفسية، تؤدي الى هزيمة في ميادين القتال، ومنذ صمود ستالينغراد امام القوات الالمانية الزاحفة، حتى طفت على السطح حقيقة، ان المانية ستؤول الى خسارة الحرب، وانها ستنتقل وشيكا الى الاراضي الالمانية، ازاء هذا التطور الخطير، بدأت الشخصيات والاسر العراقية التي لجأت الى المانية بعد فشل حركة مايس 1941، بالتفكير جديا بامر مغادرة المانية، اذ من المعروف للدارسين، ان العلاقة التي تأزمت بين قادة الجيش، والذين عرفوا بالمربع الذهبي وهم العقداء: محمود سلمان قائد القوة الجوية وصلاح الدين الصباغ، ومحمد فهمي سعيد وكامل شبيب، ورئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني، والوزير محمد يونس السبعاوي من جهة والبلاط ممثلا بالوصي على العرش العراقي الامير عبد الاله من جهة اخرى، وازاء اشتداد الخلاف بين الطرفين، فقد اضطر الوصي الى مغادرة بغداد نحو مدينة الديوانية مستنجدا بقائد الفرقة الاولى الذي لم ينجده فاضطر ثانية للرحيل نحو البصرة، وكان صالح جبر متصرفها، واذ وجد الحال يسوء شيئا فشيئا فقد توجه الى عاصمة مملكة شرقي الاردن للاستنجاد بعمه الملك عبد الله، الذي انجده بقوات يقودها الجنرال كلوب باشا، تساندهم القوات البريطانية المعسكرة في قاعدة سن الذبان (الحبانية)، في حين قاد المجاهد الفلسطيني (فوزي القاوقجي) المتطوعين الشباب لنصرة الجيش العراقي، الذي كان يخوض حربا غير متكافئة، من ناحية العدة والعدد، مما ادى الى هزيمة الوحدات العراقية المقاتلة، ومن ثم عقد الهدنة بين الجانبين، يوم 29 مايس 1941 وتوجه القادة ورشيد عالي نحو الحدود الايرانية، ومن ثم الوصول الى المانية، في حين ظل المدني الوحيد محمد يونس السبعاوي، يقود المقاومة ضد القوات البريطانية، ومن ثم اعدامه، وكان مع الهاربين الحاج امين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا لفلسطين.
لقد اقترح كامل الكيلاني، على شقيقه رشيد عالي، وهو يرى التدهور في جبهات القتال ضرورة مغادرة الاراضي الالمانية، لكن رشيدا لدواع اخلاقية، لم يقبل بهذه الفكرة التي تنم عن الغدر بالصديق ايام الشدة، وكان امين الحسيني يؤيد رشيدا في رأيه هذا.
لكن تطور الحرب، دفعت القيادة الالمانية للتفكير جديا بذلك، لذا اقترحت نقل الاسر من العاصمة برلين الى منطقة قريبة من مدينة درسدن الجبلية التي تقع وسط المانية، لكن المفاجأة ان الطائرات الامريكية والبريطانية قصفت مدينة درسدن حتى سويت بالارض، اذ ان الحلفاء كانوا يظنون ان معامل صنع القنبلة الذرية ستقام في هذه المدينة، او انها مقامة فيها، هذا السلاح الذي كان هتلر يهدد خصومه بقرب انتاجه والذي كان يسميه (الماء الابيض) ولو امتد عمر الحرب اكثر من سنة 1945، لتمكن العلماء الالمان من انتاج هذه القنبلة الذرية، الذين كان يقودهم عالم الذرة الالماني (اوبنهايمر) الذي نقلته القوات الامريكية بعد احتلال برلين الى الولايات المتحدة ليواصل تجاربه، وليمكن امريكة من الدخول الى نادي الذرة اول مرة، وكان ظن الحلفاء خاطئا، فدرسدن ما كانت فيها مفاعلات ذرية، ازاء هذا قررت الحكومة الالمانية، نقل الاسر العربية اللاجئة الى دول محايدة، هي سويسرة لكن سويسرة رفضت دخولهم، فظلت هذه المجاميع عالقة على الحدود، فضلا على اعداد كبيرة من الناس ومن جنسيات عدة، تريد مغادرة المانية – وقد بانت هزيمتها – الى مكان آمن. في اليوم الثاني من علوقهم على الحدود، قرر رشيد عالي التوجه باتجاه الشرق، لان القوات الامريكية كانت تتقدم من الجبهة الغربية، وكان رشيد يفضل الوقوع اسيرا بيد القوات السوفيتية، وهي تتقدم على جبهة الشرق، على ان يقع اسيرا في يد القوات البريطانية او الامريكية، التي ستسلمه الى الحكومة العراقية، التي حكمت عليه بالاعدام، بسبب قيادته لحركة مايس، وكان معه الطيار العراقي ابراهيم جواد والسوري ممدوح الميداني، حدث ذلك في شباط 1945، والحرب في اسابيعها الاخيرة، وبهذا انقطع كل اثر عنه ومنه، لكن الدارسين لتاريخ العراق الحديث، يقررون انه امضى ردحاً من الزمن في ضيافة العاهل السعودي المؤسس عبد العزيز آل سعود، بعد ان استجار به، فأجاره الملك السعودي، على جاري عادة العرب، في قبول الاستجارة حتى وان كان بينهما سوء تفاهم، او اشد وطأة من ذلك، اذن كيف وصل، رشيد عالي الى المملكة؟، وهذا ما قرأته في كتاب رصين زاخر بالمعلومات الموثوقة، كتبه الدكتور نجم الدين السهروردي، الذي رافق رشيداً في منفاه والمتزوج من كريمته السيدة وداد رشيد عالي الكيلاني عنوانه (التأريخ لم يبدأ غداً) الذي صدرت طبعته الثانية في 2/ مايس/1989، في الذكرى الثامنة والاربعين لحوادث سنة 1941، يقول الدكتور نجم الدين في شباط من سنة 1946، سمعت من اذاعة النمسا ان رشيد عالي وصل الى السعودية، اما كيف وصل، فهذا ما يرويه نقلاً عن صهره رشيد عالي، فبعد مغادرته منطقة التيرول، توجه نحو براغ صحبة شخص عراقي، اسمه حمدي الخياط، وما ان اقتربت القوات السوفيتية من براغ وهي تند هجومها نحو برلين عاصمة المانية، والرايخ الثالث بغرض انهاء الحرب، والسيطرة على ما تمكن السيطرة عليه من الاراضي التي احتلها جيش هتلر النازي، حتى رجاه حمدي الخياط، مغادرتها خشية الوقوع في الاسر، فغادرها نحو احدى القرى الجيكية، وظل فيها نحو شهر، وكان معه شخصان سوريان هما، ممدوح الميداني وجميل الجابي، واستطاع الحصول على هوية تؤيد كونه طالبا تركيا.
بعد مضي اشهر، اصدرت قوات التحالف، قراراً بشأن امكان الاجانب الرجوع الى بلدانهم، لذا تقدم جميل الجابي وممدوح الميداني، بطلب المغادرة نحو بلدهم سورية، وقدم رشيد طلباً كونه تركياً، ولهذا ركبوا الطائرة من براغ الى بروكسل، ومن ثم وصلوا باريس بالقطار، ثم بناءً على اوامر الحلفاء تقرر تجميع اللاجئين في معسكر بمرسيلية تمهيداً لنقلهم الى بلدان الشرق. غير ان هوية رشيد، التي تشير الى كونه تركياً تثير الريبة والتساؤل، فلماذا يسافر هذا التركي الى مرفأ بيروت من غير السفر الى تركية بلاده؟ّ! لذا فانهم توصلوا الى خدعة مفادها ان ينتحل رشيد صفة عَتّال، حَمَّال على ظهر السفينة، واستطاع الصعود اليها بهذه الصفة، والسفينة تبحر نحو بيروت، التي كانت وقتذاك (1946) تحت الحماية البريطانية، وهنا برزت معضلة اخرى اذ كيف يستطيع التنقل من غير هوية؟ واستطاع بمساعدة زميليه جميل الجابي وممدوح الميداني ملء بطاقة المعلومات من هوية شخص اخر، واستطاع النزول الى ارض الميناء، حيث اسرع بالمغادرة نحو سورية للاقامة في دار شقيقه، لكن سلطات الميناء، اكتشفت الخدعة التي انطلت عليها، واحتجزت المسافرين للتدقيق والتحقيق، في وقت كان رشيد قد غادر بيروت نحو دمشق !!
كان رشيد يريد الوصول الى السعودية، بعد ان تقطعت بوجهه السبل، لذا تمكن وبمساعدة صديقه جميل الجابي، من الحصول على هوية سورية تشير الى انه من اهالي منطقة البو كمال، وبهذه الهوية غادر الاراضي السورية ودخل الاراضي العراقية بحجة بحثه عن اغنام له ضائعة، واذ ارتابت شرطة الكمارك العراقية به اوقفته لكن ما لبثت ان افرجت عنه وضيفته بعد ان انطلت عليها ادعاءاته وانه يبحث حقاً عن اغنامه التي فقدها، وبهذه الحجة دخل الاراضي الاردنية ليغادرها نحو الاراضي السعودية من منفذ تبوك الحدودي وما ان وصل اول مدينة سعودية، حتى اخبر اميرها، مدعياً ان وفداً سورياً يريد مقابلة جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، واذ وصل العاصمة الرياض كان الملك عبد العزيز على وشك المغادرة متجها الى مكة لشأن من شؤون الدولة، فأخبروه بموضوع الوفد السوري الزائر، بغية مقابلته، واذ أَذنَ للوفد بذلك – كما يذكر الدكتور نجم الدين السهروردي نقلا عن قريبه وصهره رشيد – ومصافحة الملك، اسفر رشيد عن حقيقته، مستغلاً شمائل الملك العربي المسلم، في الاجارة وتلبية لهفة المستجير، قال رشيد (طال عمرك انا رشيد) فنظر اليه الملك ملياً، سائلاً اياه أنت رشيد عالي الكيلاني؟ أجاب رشيد: نعم ثم اغمض الملك عينيه ليتفكر وقال له: (اسلمت يا رشيد)!!
ولعله كان يتفكر في الاحبولة التي انطلت عليه، وانه ليس بخب، فكيف غلبه هذا الخب الماكر الذي لعب على كل حبال السياسة؟ ولكن.. لا ساعة مندم، فلقد سبق السيف العذل ليعيش رشيد سنوات عدة تقرب من العقد زمنا في المملكة، حتى اذا صعد نجم الرئيس جمال عبد الناصر غادرها ليقيم في الاسكندرية وليعود الى العراق في شهر اب 1958، وكنت من ضمن مستقبليه في تلك الظهيرة القائظة من يوم الجمعة ثم يتهمه قاسم بالتآمر عليه في 8/12/1958 ليحال الى المحكمة العسكرية الخاصة برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي فحكم عليه بالاعدام، ثم يطلق سراحه ليموت في نهاية شهر ايلول من سنة 1965. وتلك الايام نداولها بين الناس.