تقديم وترجمة: بول شاوول..
تعتبر لودميلا أوليتسكايا من أكبر الروائيين والروائيات وكتاب القصة المعاصرين.. وقد كرمت في بلادها وفي الخارج.. بدأت شهرتها عام 1992 بعد نشر روايتها الأولى «سونيتشكا»؛ وهي تترجم حالياً للغات عدة، فازت في كانون الثاني 2014 على جائزة سيمون دو بوفوار من أجل حرية النساء.
وقد صدرت ترجمة روايتها «العقد الأخضر» أخيراً في 2014 عن دار «غاليمار».
في هذه المقابلة الحية، والجريئة، تحلل واقع روسيا، بنظامها الإمبراطوري الجديد، وتقارنه بالإمبراطوريتين السوفياتية والقيصرية، وتبدي تشاؤماً إزاء أي أمل في مواجهة حكم بوتين الاستبدادي. والغريب أنها تكيل لدوستويفسكي نقداً لاذعاً، تكاد به أن تلغيه: لعدميته، وعنصريته «الأرثوذكسية»، وكراهيته للديانات الأخرى، الكاثوليكية واليهودية، وفي المقابل تمتدح الشاعر الروسي العظيم بوشكيلي الذي يحمل «روح الأمة» في قصصه وشعره، وكذلك تشيكوف. لكن من دون أن تعبر عن انحيازها الكبير لتولستوي. فهؤلاء الثلاثة تضعهم في «القمم»، وتسقط دوستويفيسكي إلى الحضيض.
بالطبع، كأن هذا الحسم القائم على آراء المؤلف ومواقفه السياسية والإنسانية، قابل لأكثر من نقاش، خصوصاً عندما تخلط بين الأخلاق، والخير، والمضمون، وبين عبقرية دوستويفسكي الإبداعية.. إذ لا يمكن حذف قامة تاريخية، ونتاجاً روائياً غزا العالم كله وما زال «معاصراً» حتى الآن، بذريعة انتمائه الديني أو المذهبي أو الأخلاقي.
لكن إذا كانت الكاتبة «سفّهت» أحد كبار المبدعين الروائيين في روسيا والعالم، لعنصريته القومية، ولكراهيته للكاثوليك، ولاعتبار أن «روسيا تملك الحقيقة وحدها»، أي أنها كادت تلغي دوستويفسكي من خريطة الكتّاب، ورمت كتبه مشمئزة من بعض شخصياته وتبريراته للشر، فهي (إذا كانت على صواب) وقعت في الفخ نفسه، وفي الإلغاء نفسه، وفي «السلبية» ذاتها. فكراهية دوستويفسكي (في حال كانت صحيحة) لا تقل عن كراهيتها له. فهي تستخدم اللغة ذاتها، أي اللغة الإلغائية، وهي تحيل الحقيقة الواحدة التي تهاجم بها الروائي الكبير على نفسها، باعتبارها تمتلك «الحقيقة» المعيارية والأخلاقية وحدها!
ومن ناحية أخرى، فهي وإذ تدين النظام البوتيني الدكتاتوري، فإنها لا تدعو لا إلى المواجهة ولا حتى إلى تكوين رأي عام ضده: إنها سياسة الاستسلام وبحسب هولبيك «الخضوع»، وعندما تدعو المثقفين الذين تراهم أعجز من أن يناضلوا بكتاباتهم وأفكارهم علناً، إلى حد تدبير أمورهم الشخصية، كل على حدة، وعلى انفراد: فيكمل كل مثقف عمله ومهنته: الموظف وظيفته، والمدرس تدريسه، والفنان نتاجه. وكأنها بذلك تدعو إلى التصرف في كل اتجاه، ما عدا مواجهة بوتين وأحلامه الإمبراطورية. بل إنها تنعت الشعب الروسي نفسه بعجزه عن تدبير أموره عندما تتاح له الحرية، بسبب بسيط أنه لم يعتد الحرية، ولا ممارستها، ويفضل أن يسلم أمره إلى الطغاة: أي أنه شعب قطعان مصنوع لعصا الراعي. وكأنها تتجاهل الانتفاضات الكبيرة حتى أيام الإمبراطورية الروسية للشعب الروسي. وتتناسى ثورته الشيوعية التي كانت استمراراً للثورتين الفرنسية، والأميركية…
كأنها كاتبة الإحباط المخملي!
السلامة أفضل من المجازفة. ولنترك كل شؤوننا ومصائرنا للقيصر الجديد!
هنا ترجمة لمعظم الحوار الذي أجرته معها مجلة «Books» العالمية.
[ أكدت أخيراً أنه من أجل فهم روسيا، فمن الأفضل قراءة بوشكين لا سولجنتسين، ما الذي يجعل بوشكين معاصراً؟
ـ الصيف الماضي، قرأت على حفيدي القصة «ابنة الكابتن» لبوشكين، وأحسست من جديد إلى أي درجة هذه القصة هي تحفة مطلقة. لم يُكتب مثيلها في روسيا. يحتفظ هذا الكتاب بكل أهميته اليوم، لأنه يعالج مسألة الكرامة الإنسانية. لأن جوهر الشرف والكرامة كانتا متأصلتين في روسيا. واكتشف بوشكين ذلك بعمق بالغ. وكان مؤلماً بالنسبة إليه لأن شرفه كان يُمس من قبل رعايا القيصر، من قبل النساء، والأصدقاء… «ابنة الكابتن» هي قصة هذا النضال الشرس من أجل الحق والكرامة. وقد رافقت هذه المعركة بوشكين طيلة حياته، وهي سبب موته.
[ كان الكاتب يخشى من تفجر ثوري ويعترف بضرورة اليد الصارمة؛ لكنه، مع ذلك، كان يحتفظ بمسافة مع الإمبراطور. موقف الكتّاب الروس اليوم، هل يذكّر بهذا الالتباس؟
ـ كان بوشكين إلى حد ما رقّيّ (ينتمي إلى العبيد الأرقاء)، وكان ذلك يعذبه كثيراً، ويعترف بذلك في رسائله. وكتب كثيراً حول علاقة الكاتب بالسلطة، لكنه لم يحل القضية، فهو قريب منا في موقفه هذا.
[ طرح أسئلة حول العلاقات بين الشاعر والسلطة في شروط رقابة مشددة، لم تكن من اختراع سوفياتي. أيكون ذلك عصب الأدب الروسي؟
ـ إنه موضوع مهم فكرت فيه كثيراً في الثمانينات، أثناء «البيريسترويكا». اختفت الرقابة للمرة الأولى منذ ثلاثة قرون. وحتى اليوم، مع بوتين، لم تحل المشكلة: موجودة بالنسبة لوسائل الإعلام، ولكن ليس للأدب. في الوقت ذاته، كانت الرقابة السوفياتية، تكسب الكلمة قيمة. فالكتب الممنوعة كان يعاد طبعها على الآلة الكاتبة، وبالتصوير. ومنذ أيام غورباتشوف، كل تلك الكتب الممنوعة نشرت: سولجنتسين، شالاموف، أورويل، ريجيلاس، سامياتين وغروسمان. لكن ما كانوا يحتجاون إلى قراءتها سبق أن قرأوها «تحت المعطف». أما بالنسبة إلى الآخرين فكانت بلا أهمية. خذ مثلاً «أرخبيل الغولاق»، فقد قرأناه مستنسخاً على الآلة الكاتبة على ورق الكربون، لكن في نهاية البيريسترويكا، كان يباع على زاوية الشارع. النتيجة؛ بعد سنوات عدة ينتخب المواطنون الروس رجلاً من الـ»KGB« (المخابرات السوفياتية)، رئيساً للبلاد! في روايتي الأخيرة «تاج العمود الأزرق»، وتساءلت فيها عن هذا التعطش للمعرفة التاريخية، السياسية، الدينية والفنية. أين وكيف تبرز؟ ولماذا تختفي؟
[ هذا الالتباس حول السلطة لا يبدو لي خاصاً ببوشكين فقط، إنه يعبر مجموع الأدب الروسي، بدءاً بدوستويفسكي: فبعد شباب ثوري، يتعرض لتغير في السجن، يصبح صوفياً ورجعياً بشكل مرعب. ما رأيك؟
ـ طبعاً! قرأت كل رواياته. لكن قرأت باكراً في شبابي «دفاتره»، وشعرت باشمئزاز كبير فيه. في نظري، فقد أنتج هذا الكاتب ثورة ضخمة بتكريسه الشر الموجود داخل الإنسان. قبله، كان الناس يعرفون التمييز بين الخير والشر، لكن دوستويفسكي أعطى شرعية للأحشاء النتنة للإنسان، وهذا ما يفسر نجاحه العالمي. لم يسعَ إلى البحث عن التناغم والجمال، كما عند بوشكين، لكن عرض العفن الإنساني، تبريره الشر مرافقاً لفكرته للدور المسيحي للأرثوذكسية الروسية ولروسيا عموماً يجعله غريباً عني. لقد توقفت عن إعادة قراءته.
[ يدفع دوستويفسكي فكرة الأرثوذكسية الروسية إلى أقصاها: يمكن الإنسان أن يكون قذراً، لكن إذا كان مؤمناً فعلاً بالله، فحبه للمسيح يمحو كل خطاياه…
ـ جوهر المسيحية هو حب يسوع، لكن أيضاً حب قريبه. لكن، إذا دوستويفسكي ينسجم والقذر الروسي، فهو يكره الكاثوليك واليهود من هذا الجانب، فيومياته مرعبة: يتكلم على عالمية الإنسانية الروسي، لكن في الوقت ذاته، فهو يشاطر تصلب معاداة جماعة السلوقية للأديان الأخرى، وللبشرية كلها، ويمجد الأرثوذكسية وروسيا باعتبارها حاملة الحقيقة وحدها. فهذا ما يقود العالم الروسي إلى الانغلاق، والانعزالية الذاتية.
[ لكن ندامة القذر، عند تشيكوف، تبقى ممكنة. فعنده، الحياة مرعبة، والناس مرعبون، والأمل مقطوع. أوليس هذا أسوأ؟
ـ لكن هناك كمية كبيرة من التعاطف في كل قصة من قصص تشيكوف. على العكس، فكرت كثيراً في مسرحياته: لماذا يستمر عرضها أكثر من مئة عام، مع أنها مجرد محادثات قليلة الأهمية بل وحتى بلا معنى؛ في إعادة قراءته مرة بعد أخرى اكتشفت أمراً: إنه مسرح العبث! وعندها بالذات كتبت مسرحية «المربي الروسي»، حيث أدخل في حوار مع تشيكوف. الشخصيات والعقدة هي ذاتها الموجودة في «شجرة الكرز»، لكن العمل يدور في أيامنا هذه. كتبت هذه المسرحية في ألمانيا(…) واكتشفت أن العالم عند تشيكوف غير محدود، حيث نجد فيه كل مرة محتوى معاصراً.
[ ما الذي يجذبك إلى تولستوي؟
ـ أعشق تولستوي. بالنسبة إليّ، شخصية ناتاشا روستوف ما زالت تعيش كصديقة. عندما تقرأ «الحرب والسلم» تعيش فعلاً مع الشخصيات. لا أعرف كيف توصل إلى ذلك، فهو سر كبير.
[ لكن تولستوي في «الحرب والسلم» و»أنا كارينينا» تعليمي.
ـ تولستوي لا يستنفد كالكثيرين. عندما يخطر بباله أن يعلّم الأطفال، يكتب حكايات تعليمية. لكنه قام بذلك متأخراً، عندما كانت أعماله الكبرى قد صدرت. «قصص سيباستوبول» تحديداً، يجب أن تطبع على يافطات في مترو موسكو. أي اختراق للنفس البشرية! نعم! تولستوي أحياناً جد ساذج، لكنه يتمتع بنقاء أخلاقي لا يصدق وشجاعة نادرة بالنسبة إلى نفسه. على خلاف دوستويفسكي، لا يريد أن يسقط القذر في نفسه، تعذبه رذائله وأعماله السيئة، وأنا أتعاطف معه. لهذا السبب أرغب دائماً في إعادة قراءة تولستوي وتشيكوف وليس دوستويفسكي.
[ لكن سولجنتسين تعليمي؟
ـ أنا أتعاطف مع سولجنتسين، فهو إنسان حقق مأثرة بتأليفه كتاباً مهماً، وأساسياً، لكنه لم يُقرأ ويُفهم جيداً. لو كان الشعب الروسي قرأ جيداً «أرخبيل الغولاق»، لكنا نعيش في بلد آخر. أي حزن! بكل أسف، المصدر الوحيد المؤثر في هذه البلاد هو التلفزيون. لقد وصلنا إلى نقطة تراجيدية من تاريخنا، حيث تختفي فيه الكلمة، وموضة التلفزيون تزداد.. فالثقافة باتت معلبة، ومن الممكن أن تصبح البلاد غداً بلا كتب. نحن نرصد نتائج هذا الخضوع التام للضمائر لهذه العلبة التلفزيونية، هذه العبودية للا دمعة. إنها نقيض يوتوبيا بدأت تصير حقيقة.
[ قلت أن «أرخبيل الغولاق»، عندما صار في متناول الناس لم يكن له تأثير على الروس. أهذا يعني أن الشعب لم يكن مهيأ للحرية التي قدمها إليه غورباتشوف؟
ـ بكل أسف، أنت على حق. أنا لم أحب أبداً السلطة السوفياتية، لكنني بدأت أفكر أنها ملائمة لعقلية الشعب الروسي. لهذا السبب هناك حنين قوي للمرحلة السوفياتية. فالناس تتأسف على الإمبراطورية الضائعة، من هنا هذه المساندة القوية للسياسة الإمبريالية للكرملين. فالروس يفتقدون اليد القوية التي تقرر كل شيء عنهم. إنهم لا يعرفون كيف يتحملون مسؤوليات حياتهم في عالم حر. لأنهم لا يعرفون كيف يدبرون أحوالهم وحياتهم.
[ هل عندهم حنين لنمط الحياة السوفياتية أو نمط حياة الإمبراطورية؟
ـ الاثنان معاً. في الحقيقة، فروسيا السوفياتية كانت استمراراً للإمبراطورية الروسية.
[ وهذا قد يفسر لماذا تعتبر الفدرالية الروسية نفسها وارثة للإمبراطورية القيصرية والاتحاد السوفياتي…
ـ أكيد! لكن الإمبراطورية السوفياتية تفجرت عام 1991، والآن، فإن الفدرالية الروسية مهددة بدورها بالانفجار.. فالأزمة الراهنة مع أوكرانيا، كما الحرب الروسية الجيورجية، ليست سوى إشارات تهدف إلى إبقاء الإمبراطورية. تحت حكم غورباتشوف، سنحت لنا فرصة فريدة لتحقيق طلاق حضاري بين شعوب ومناطق عدة في الإمبراطورية، لكننا فوّتناها. تذكر الازمات في مولدافيا، أفخازيا والشيشان… إلخ. كان في مقدورنا عقد علاقات طبيعية مع أوكرانيا، حيث إن أمة مدنية في طور التكون، لكن «السوفيتيوية» متجذرة في الأفكار، والاحشاء والنخاع الشوكي لـ«Homo sovieticus» لا يستطيع مهادنة وجود دولة كبرى جارة ترفض العودة إلى الخضوع لسلطة «الأخ الأكبر».
[ هل هناك، في رأيك، أمل في روسيا؟
ـ لا أقول ذلك. عندنا علماء، مفكرون، فنانون لامعون، لكن للأسف، فالنظام الحالي مكوّن هكذا، فهو يستخدم بعض «الفيلترات»، لا تسمح لغير الجماعات غير الأخلاقية، والفاسدة في الوصول إلى مراكز القيادة(…).
[ ماذا يمكن أن تفعل الانتلجنسيا للحؤول دون تدهور روسيا، كما تقولين؟
ـ أظن أن على كل واحد أن يستمر في عمل ما يجيده: الطبيب: معالجة المرضى، المعلم: تعليم الأطفال، الكاتب: الكتابة لقرائه… لا أرى ما يمكن أن نفعله أكثر من ملء مهمتنا في الحياة بضمير ناصع.