كتب: علي الشماع
مجموعة من قراء المقام ومتذوقيه يلتقون كل يوم جمعة في المركز الثقافي البغدادي في شارع المتنبي، وفي إحدى قاعات المركز يقرأون المقام وينشرون معارفه الثقافية للحفاظ عليه كموروث يعكس قيم العراقيين وذوقهم.
إنهم يسعون إلى إنقاذ الأغنية العراقية، وجذب الشباب العراقي للتعرف على المقام والابتعاد عن بعض الأغاني الهابطة الطارئة على المجتمع العراقي التي بدأت بالتأثير على القيم المجتمعية وهبطت بالاغنية من عليائها الى الهاوية لما تحمله من مضامين غير هادفة.
التقينا عدداً من القراء والمهتمين بالمقام العراقي ومستمعيه ومحبيه وسألناهم عن المرحلة التي بلغها المقام العراقي في الوقت الحالي وأهمية المقام وتأثيره في الفنون الأخرى، وعن إقبال الجمهور على المقام وتذوقه.
تذكير وحفاظ
التقينا قارئ المقام طه غريب قائد فرقة أنغام الرافدين للتراث بعد نزوله من الخشبة وإتمامه قراءة المقامات العراقية، فتحدث بأسى عميق، موضحاً أنهم يلتقون، في شارع المتنبي ليذكروا الناس بالمقامات العراقية وأساتذتها وأعمالهم من أمثال محمد القبنجي وحسن خيوكة ويوسف عمر وآخرين.
وقال لي: نحن نبذل هذا الجهد كله لشعورنا أن هذا الموروث العريق مهدد بالزوال اليوم، وهو ارث عراقي جميل من الواجب أن يعتز به كل عراقي لأنه غناء أصيل أصبح، منذ زمن بعيد، جزءاً من هويتنا كعراقيين وبغداديين.
وتابع: لا يقتصر ملتقانا على قراءة المقام فقط، بل نستغل هذه الفرصة للتعريف بالمقامات العراقية ونشر المعرفة الثقافية الخاصة به، لاعتقادنا أن هنالك خللاً كبيراً في الثقافة المعرفية بالمقامات العراقية، التي ترجمت بصدق أفراح العراقيين وأحزانهم وأمانيهم وتطلعاتهم على مدى مئات السنين.
وقال: إذن هذا الفن جدير بالتعريف به خصوصا في هذه الفترة التي تشهد الاغنية العراقية المقدمة من الفضائيات والإذاعات الكثيرة هبوطاً أخذ يهدد الذائقة العراقية، لاسيما أن ذائقة الشباب الذين بدأوا يظنون أن انماط الغناء الهابطة السائدة، اليوم هي غناؤهم الحقيقي.
عشق وعتب
وبينما كان محمد حسين علي وهو من مستمعي المقام ومحبيه يهم بالخروج من القاعة الخاصة بالمقام استوقفناه لنتحدث معه، فأخبرنا أنه يتردد كل يوم جمعة على هذه القاعة كونه يعشق المقام العراقي، ولكنه أبدى أسفه، وهو يقول: أرى ان بعض شبابنا لا يهتم لهذا الفن ويتجاهله في حين أنه يجب علينا أن نهتم بهذا الموروث إلى أبعد الحدود.
وبدا منفعلاً وهو يسألني: لماذا نرى العرب في الوطن العربي من مشرقه وحتى مغربه يعرف أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ويستمع لغنائهما؟
ولم يمهلني لأجيب عن سؤاله، بل هو أجاب عنه: لأن هناك إعلاماً قوياً ينشر فن هؤلاء العمالقة، ولهذا أوجه عتبي إلى وسائل الإعلام العراقية لعدم تسليط الضوء على المقام العراقي إذ نرى أنها تقدم الشيء القليل منه، وبرأيي فإن الضعف المعرفي لدينا بالمقام العراقي ناتج عن عدم اهتمام الفضائيات والإذاعات العراقية بهذا النوع من الفنون وعدم التركيز عليه، وأنا كمحب لهذا الفن أرى أنه يجب أن توضع خطط ودراسات للمحافظة على هذا الموروث العظيم الذي يمثل هوية وطن.
تراث عميق
أما أحمد علي كمال وهو أستاذ مقام عراقي ومن محبيه حدثنا قائلا: المقام العراقي تراثنا كعراقيين وهذا التراث الآتي من عمق التاريخ يجب أن نوصله إلى أجيالنا المقبلة كما أوصله إلينا آباؤنا وأجدادنا.
وأضاف: والآن يجب علينا أن نبحث عن أصوات جميلة تواصل الدرب ونحافظ على هذا الفن العراقي الأصيل، ونحن كنخبة مستعدون لتبني الشباب وتعليمهم المقامات ودعمهم لأننا سنرحل عن الحياة ويبقى الشباب لتكملة المسيرة، ونحن نطالب أن يهتم الإعلام بالمقام لحمايته من الاندثار، حتى يكون هناك تواصل للجمهور مع المقام.
قاعدة صلبة وتعطش
اما قارئ المقام خالد السامرائي فيرى أن الشباب في الوقت الحاضر ينزلق إلى هاوية أغانٍ بائسة ليس لها طعم، وقال: إن تجمعنا هذا هو رسالة للشباب لتذكيرهم بفننا الحقيقي وتعريفهم به للحفاظ عليه من أجل توجيههم للاستماع وإنتاج أغان هادفة فيها ذائقة فنية عالية ترتقي إلى تاريخ الأغنية العراقية لان أغاني هذا الزمان من الأغاني الرخيصة وهي كالفقاعة سرعان ما تنسى، ولكن المقام العراقي يبقى خالداً لأنه القاعدة الصلبة الأساس التي تنبثق منها الألحان العراقية، لذلك تجد أن أغلب الأغاني التي هي من الطرب الأصيل لا تفارق ذاكرة العراقيين لأن ملحنيها أخذوا من المقام ولحنوها مثل عباس جميل ومحمد نوشي ومحمد جواد اموري ورضا علي وغيرهم.
وأضاف: ترى الآن القاعة تضم قرابة 250 كرسياً كلها ممتلئة والناس يستمعون وهم واقفون، وهذا يعكس مدى تعطشهم وشوقهم الدائم إلى المقام وسماعه وفي حال غياب أحد القراء ترى الناس جميعهم يسألون عنه وهذا شي مفرح.
تفاؤل وأمل
وبوجه يطفح بالتفاؤل بأن الشباب العراقيين سيتمكنون من الحفاظ على هذه الأمانة الثمينة ونقلها إلى الأجيال المقبلة، يخبرني الشاب مصطفى لطيف وهو أحد رواد قاعة شناشيل للمقام العراقي أنه منذ عامين يرتاد القاعة لسماع المقام العراقي.
وقال: عند سماعي للمقام العراقي تنثال على مخيلتي صور الحياة البسيطة والجميلة التي عاشها أجدادنا وارى من خلالها أزقة بغداد القديمة وطيبة الناس وتماسكهم ومحبتهم لبعضهم وبساطتهم ونخوتهم.
ويتوجه مصطفى بالنصيحة لأقرانه، ويقول: على كل من يبحث عن الذوق والكلمات الراقية واللحن الجميل أن يستمع للمقام العراقي الذي يمثل تاريخ العراق الذي لا يمكننا الاستغناء عنه.
وأنا كشاب أستمع إلى الأغاني الحديثة ولكنني لا أشعر بقيمة الأغنية والكلمات الا عند سماعي للمقام العراقي لأنه يتضمن الحكم والعبر واللحن الجميل الأصيل.