بغداد مدينة مغلقة, ليس بسبب الإرهاب والقتل المجاني منذ أكثر من عقد, بل بسبب الإرهاب الفكري.
بقلم: عماد رسن
إذا كانت المدن كالوجوه تشبه أصحابها فلا يخطئ من يرسم لبغداد وجهاً كئيباً فيه مسحة من حزن عميق, هو ليس حزن المتألم من جراحات تنكأها يد الإرهاب في كل يوم, بل هو حزن المتأمل الذي مر بتجارب كثيرة إذ يعلم ما يخبئ له الليل من مفاجآت.
نعم, فالمدن تختلف عن البشر, أعمارها طويلة وذاكرتها لا تمحى فهي جزء لا يتجزأ من ذاكرة الشعوب التي تحتفظ بتفاصيل الذاكرة الجمعية, ففي كل ركن من كل شارع وحي في المدينة كانت هناك قصة ما لحب عذري أو لجريمة مروعة, ظلم أو عدالة منقوصة, لحزن بفقد أو فرحة لعودة لطفل أو أي شيء له أثر على المشاعر الإنسانية. وفي بعض الزوايا, لا تجد إلا قصة للوطن يحتفظ بها المكان حين تلون دماء أبنائه شوارع المدينة معلنة الثورة أو العصيان أو التمرد على السلطة وما تحمل من جور.
بغداد أخطر مدينة في العالم في آخر دراسة نشرتها فيرسك مايبلكروفت فيرم العالمية المتخصصة في الدراسات والتحليل في التنبؤات المستقبلية. كيف لا وقد ذكرت الدراسة بأنها تعرضت لـ 380 هجوماً إرهابياً سقط على أثره 1141 قتيلاً وأكثر من 3500 جريح في العام الماضي فقط.
أرقام مهولة تغير ملامح أي وجه عصي على الزمن, بالخصوص حين تقدم قرابينها ليس برضا حيث تعلم بأنها دورة من دورات التاريخ, فهي ما تزال تحمل في ضميرها أحلام من سقطوا بين احتلال صفوي وعثماني في القرون التي مضت.
بعد مرور اثنتي عشرة سنة على سقوط النظام السابق الذي سلمها عجوز هرم لم يلون أحد صورة بغداد لتبدو أجمل تزهو بالأمن والأمان. على العكس, شوهوا مظهرها بعد أن قطعوا أوصالها بالكتل الكونكريتية مع شبه عزل على أساس طائفي توزع على المناطق بين الكرخ والرصافة.
حشروا في شوارعها ملايين السيارات بأشارات مرورية معطلة وجسور غير مكتملة لسنوات بسبب الفساد وشوارع قديمة لم يجددها أحد. في أغلب الزوايا لشوارعها ومحلاتها تجد هناك نموذجاً مصغراً لكارثة بيئية من أزبال منتشرة وحيوانات تسرح في كل مكان. لا شيء نظامياً فيها إبتداءً من عشوائياتها المنتشرة في كل مكان إلى مساحاتها الخضراء التي ضاقت وأصبحت مستنقعات يملأها البعوض وفي بعض الأحيان تحولت لأماكن للرعي. نعم, فهي تحكي قصة العبث من جهلة بأهمية المكان في العقل الجمعي والثقافة المحكية فضلاً من أن المدن هي الواجهة الحضارية لكل بلد بنظافتها ورموزها وصروحها الفنية والثقافية.
ليس هذا فحسب, بغداد مدينة مغلقة, ليس بسبب الإرهاب والقتل المجاني منذ أكثر من عقد, بل بسبب الإرهاب الفكري. أغلب شوارع بغداد تملأها صور وشعارات دينية وسياسية وتجارية. لا مكان للحوار والرأي الآخر إلا ما ندر, لا نوادي ثقافية لها فاعلية في دعم الحركة الثقافية تدعو للتسامح وقبول الآخر وتشجع على الديمقراطية كخيار حتمي ولا جرافيتي يلون حيطانها يعبر عن حركات شبابية تحاكي المستقبل ولا مكتبات تكون بؤرة لتجمعات تطرح فكراً مغايراً.
لا فضاءات يمكن أن تكون أماكن للتواصل لدعم الحوار وتجسيد الفعل الديمقراطي. فقط تلك البقعة الصغيرة في شارع المتنبي, المتنفس الوحيد الذي يمكن أن تجد فيه شيئاً مختلفاً, وما أن يخرج من ذلك المكان حتى تقمعه هراوة السلطة أو مجموعات مازالت تعيش في التاريخ.
ويبقى السؤال, ماذا قدمت الحكومات المتعاقبة لتلك المدينة الحزينة؟ أين الصروح الثقافية؟ أين المكتبات في كل زاوية من بغداد؟ أين المدارس النموذجية؟ أين الشوارع النظيفة والاهتمام بالبيئة؟ أين المواصلات السريعة التي تقلل من عدد السيارات الخاصة وترحم الناس من سمومها وضجيجها؟ أين المساحات الخضراء كأي مدينة عصرية لها عمق حضاري؟ أين وأين وأين؟