نبراس الكاظمي
المتابع للسجال السياسي الامريكي في الشأن العراقي سيجد بأن مراكز القوى في واشنطن، من مجالس النواب والشيوخ، واللوبيات، ومراكز الابحاث، والصحافة، ورأس المال، قد استمالها الخطاب المشكك بقدرة العراق على تخطي او ممانعة النهج الاستراتيجي الايراني، وباتت الاجواء مكهربة فيما يخص دور العراق عند التكلم عن سياق الحلول الاستراتيجية الامريكية لشرق اوسط عائم على الفوضى والامواج المتلاطشة.
سيذهب دولة رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي بعد ثلاثة اسابيع الى واشنطن، وقد يتفاجئ بحجم تراجع قيمة العراق الاستراتجية هناك لأن السواد الاعظم من المتابعين باتوا على قناعة بأن سلطته التنفيذية ملحقة بقرار طهران. قد يكون هذا التصور مجحف، ولكنه انعكاس لوتيرة اعلامية وبحثية متصاعدة تؤكد على تابعية العراق، مدعومة من قبل شبكة مصالح وعلاقات وتحالفات، من لوبيات وتمويل لمراكز ابحاث وجامعات واستثمارات هائلة، متجذرة في امريكا منذ عقود، بعضها عائد الى الخليج ودول عربية اخرى وتركيا، وبعضها عائد الى اسرائيل. وهناك صدى لهذا الاعتقاد فيما تنشره وسائل الاعلام الامريكية عن مجريات الاحداث في العراق، وبالتحديد حول العلاقة الايرانية مع قوات الحشد الشعبي، وما يتم نقله عن ارض الميدان الى المتلقي الامريكي.
والدبلوماسية العراقية، وما يرفقها من لوبي عراقي، ليست بالمقدرة على الرد على هذا الكم الهائل من الاقاويل، او دحضها، وهي في الاساس ليست مؤهلة للقيام بواجب مهم كهذا.
التلاقي العراقي مع السياسة الامريكية، والذي يحدث مع بريت مكورك او مع السفير ستيوارت جونز لا يعكس لدى ساسة بغداد حجم التحدي، فهذين الرجلين في نهاية المطاف مسؤولين من الدرجة الثانية، يتكلمون من منطلق ادارة “محاصرة” في البيت الابيض هي الاخرى. الرئيس باراك اوباما يتعرض لسيل جارف من الانتقادات حول سياسته في الشرق الاوسط، وعلى الاغلب سيخلي مكتبه ويتقاعد قبيل انتهاء العاصفة في المنطقة. فماذا سيحصل بعد ذلك؟ ما هي المتغيرات الاستراتيجية الحقيقية التي سيتمتع بها العراق ما بعد “السلفيات” التذكارية ما بين العبادي واوباما؟
في قناعتي، على الوفد العراقي ان يتوجه الى واشنطن ليبدأ عملية ترميم وضع العراق في سلم الاولويات الدولية من خلال النقاط هذه:
الاول-ايضاح بأن العراق غير معني بالمستجدات الاقليمية خارج حدوده، حتى وإن وصل الامر الى سقوط نظام بشار الاسد. اربع قوى سنية اقليمية لديها ما تريد اثباته في سوريا لجماهيرها (راجعوا البوست السابق)، وهي محور السعودية-مصر-الامارات، ومحور الاخوان-تركيا-قطر، وجهاديي جبهة النصرة واحرار الشام، واخيرا دولة الخلافة. هذه الاطراف ستتجحفل باتجاه دمشق لأن من يرفع رايته فوق القصر الجمهوري هناك سيستطيع ان يقول بأن الحجم الاكبر من المصير السني بات في يده. وفي المقابل، ايران عليها ان تضع ما لديها من مقدرات كي تؤجل هذا الامر، وتبين بأنها لم تنكسر. ولكن كلما توهجت الحرائق بعيدا عن العراق، واستهلكت هذه القوى قوامها خارج حدوده، كلما استقر العراق. لندعهم يتطاحنون، ولنقل للعالم الخارجي اننا غير معنيين بما يحدث، ولن ننجر مع اي كان الى التطاحن الشامي من باب دفع الضرر، وتقليل الخسائر، والانشغال بـ “اللي بينا”.
ثانيا-اعتبار الاتفاقية الاستراتيجية مع امريكا ملغية لأنها لم تمر بمرحلة الاستفتاء الشعبي كما كان مرسوما لها من الناحية القانونية العراقية، وبدأ المشاورات للدخول الى اتفاقية امنية واقتصادية اعمق واكثر جدوى، تربط الامن القومي العراقي بإلتزامات امريكية حقيقية، لا بمزاجيات السجال الداخلي في واشنطن.
ثالثا-استغلال المباحثات الجديدة مع الشركات النفطية العالمية حول تحويل عقود الخدمة النفطية الى عقود شراكة لغرض توظيف نفوذ هذه الشركات مع اقطاب القرار السياسي الامريكي، وخصوصا الجمهوريين.
رابعا-اعادة بناء العلاقات والروابط مع مراكز الابحاث، والصحافة، ومجلسي النواب والشيوخ التي احدثتها المعارضة العراقية في واشنطن قبيل حرب 2003، والتي ترضرضت جراء الاتهامات المتبادلة والشكوك المبيّتة، وما حصل من اضطراب امني في العراق ما بعد التحرير. قد يعتقد بعضهم بأن هذه العلاقات لا يمكن احياءها، ولكن المستجدات التي حصلت في العقد الماضي قد تعيد المياه الى مجاريها وتنبت علاقات استراتيجية جديدة.
خامسا-فتح خطوط استراتيجية حقيقية مع الصين لتفعيل علاقاتها مع القطاع الخاص الامريكي، وربط السيولة المالية الصينية مع مشاريع كبرى تدار من قبل مستثمرين امريكان وصينيين في العراق، مما سيجعل الصينيين يروجون لأهمية اقتصادية مستقبلية لدى العراق في الموازين التجارية العالمية، وخصوصا قطاع النقل، وسيقوم شركاءهم الامريكان بدورهم في الترويج لأهمية العراق المستقبلية في واشنطن.
الطريق طويل ولكن علينا ان نبدأ من نقطة ما، وعلى المفاوض العراقي ان لا ينغر بالمفاخر البروتوكولية المصاحبة لمنصبه الحاني (“صورني وآني رئيس وزراء”)، ولا بغايات البيت الابيض الحانية لهذه الصور التذكارية والتي تريد ان تقول من خلالها (“تره الامور زينة، ماكو شي وداعتكم”) امام مناكفيها في واشنطن، بل هذه فرصة لإنطلاقة عراقية جديدة في حسابات قوى العالم، من الصعب تفويتها، او استردادها مرة اخرى.