بقلم الدكتور منقذ داغر
في دراستي للمجتمع العراقي ثبت لدي بالارقام أنه مجتمع فرط جماعي hyper collective.وعلى الرغم من أن الثقافة الجماعية فيها كثير من الصفات الجيدة الا انها ايضاً تحوي كثير من الصفات السلبية بخاصة حينما تسود عقلية الفرط-جماعية وتسيطر على السلوك .وواحدة من أهم صفات المجتمعات الجماعية أنتشار فكرة المخلص أو المنقذ Savior فيها. نعم قد لا يكون البعض يؤمن بفكرة المخلص ولكن هناك جزء كبير من المجتمع يؤمن بها بشدة.هذا في المجتمعات الجماعية،فما بالك بالمجتمعات الفرط جماعية كالعراق. أن فكرة المخلِّص لا تقتصر على الدين،وأنما فكرة عامة يركن لها هذا المجتمع الذي يؤمن بالأعجاز قبل الإنجاز. بمعنى وجود قوة عظمى (معجِزة)أكبر من قدرة الفرد هي التي تتحكم بحياته. وبعيداً عن الدين فهذه المجتمعات تؤمن بالحظ والقَدَرْ،والمؤامرة. فاذا قلت لشخص متى تفعل ذلك قال لك(الله كريم)،واذا قلت له لماذا تسكت على حقك يقول (الله موجود) .وهكذا حينما نكون بين جماعة او ضمنها ننتظر او نتحسس رأي الجماعة وموافقتهم قبل أن نبادر بالرأي،واذا كان رأينا مخالف للجماعة،سكتنا مدعين اننا (نحترم)الجماعة في حين اننا نخشى مخالفتها! لقد وجدت كل الدراسات التي أجريت على هذه المجتمعات أنها أقل بكثير من حيث المشاركة السياسية بالقرار من المجتمعات الاخرى،فهم ينتظرون نزول الفرج وحصول التغيير(من الخارج)لانهم لا حول لهم ولا قوة.
في ظل مثل هذه الثقافة الغيبية-الإعجازية تسهل جداً صناعة الوهم وبيعه وتعاطيه. ولا يقتصر بيع الوهم لمن لديه مشكلة مع زوجه،أو لا ينجب أطفال أو لا يستطيع الخلاص من الحظ العاثر،بل يمتد ليشمل كل النواحي ومنها السياسة. وتزداد سهولة بيع الوهم حين ينتشر الاحباط وعدم الأمل بالتغيير وتسود المشاعر السلبية. وبحسب آخر تقرير أصدرته گالوب عن مؤشر المشاعر السلبية(الحزن،التشاؤم،والعصبية) فقد أحتل العراق مرة جديدة ومنذ 2019 قمة الشعوب التي تنتشر فيها المشاعر السلبية. ومثلما يتعلق الغريق بقشة،ويرى العطشان السراب ماءً،فأن أشاعة الأمل بالخلاص على يد المنقذ الذي سيأتي ممتطياً صهوة جواده الأبيض ومكللاً بالبياض داحراً الظلم وباطشاً بالظالمين هي مثل المخدر تماماً. مرة أخرى أؤكد أني لا أتكلم عن الدين بل عن ثقافة الوهم التي هي أفيون الشعوب.
أن أبو علي الشيباني وكل من يشيبن(براسنه)بحجة أنه مكشوف عنه الحجاب هم مثل الأفيون،لانهم لا يكتفون بنشر الوهم فقط بل يثبطون أصحاب الهمم ومن يريدوا النزول كي يحصلوا حقوقهم،ويصلحوا أوضاعهم بأيديهم.
عندما يخرج علينا أحدهم ليبشرنا بخلاص العراق على يد محتلٍ جديد لا يعرفه ألا هو فأنه أما يزرع الوهم أو يتعاطاه! أن أمريكا حينما أرادت أن تغزو العراق وتحتله فقد كان الجميع(او على الأقل) كثيرين مطلعين على الخطط والتحضيرات منذ أشهر طويلة لأنه ببساطة لا يمكن أخفاء عملية كبرى كهذه تحتاج الى مئات بل آلاف الأشخاص ليعدوا لها وينفذوها. لقد كانت مقدمات الغزو واضحة على الرغم من أن يوم الغزو كان مخفي. فأذا قيل لنا أن غرفة العمليات السرية التي تدير هذا المخطط لغزو العراق من جديد والتي لا يعرفها حتى الراسخون في العلم سوى واحد أو أثنين من الشيبانيين،تخشى من أن تُعرف تحضيراتها فيُجهض مخططها من قبل قوى النظام في العراق،أتساءل هل ان قوى النظام الحالي أقوى وأكثر سطوة من نظام صدام؟! فأذا كانت أمريكا (وهي القوى الاعظم) لم تخشَ صدام ولم تخفِ نواياها فكيف لقوى(المخلِّص-المنقذ) أن تخشى النظام الحالي الذي يرتجف من أقوال هذا السياسي وتخشاه؟!
إنني هنا لا أقصد شخصاً واحداً بعينه فقط،بل أقصد إتجاهاً عاماً بدأ ينمو ويكبر خلال العقد الماضي مستثمراً هذا القلق الوجودي الذي يعاني منه العراقيون وهذا اليأس المطبق عليهم من كل إتجاه. والغريب أن كل المحللين والسياسيين الذين يصنعون ويسوقون هذا الوهم،يكررون نفس القصة:أميركا،أو (قوة غربية) تعمل بالخفاء لارسال جيوشها مرة أخرى وطرد ساكني المنطقة الخضراء. فاذا سألتهم،وماذا بعد ذلك؟! ومن قال أن حياتنا ستكون أفضل؟! ألم يفعلوا ذلك سابقاً فأطاحوا بالنطيحة وجائوا بالمتردية؟! والسؤال الأهم،لماذا لا تأتمن غرفة العمليات السرية(الغربية)سواك من العراقيين وماذا يميزك عنهم؟!
أنا لا أشكك في حسن نوايا (الشيبانيين)الذين يتحدث لهم معلمهم ويخبرهم بأشياء نجهلها،لكني أشكك في نتائج ما يصنعوه. أن من يريد خيراً بالعراق وشبابه فعليه أن يقول لهم،ليس هناك أحد في العالم يمكن أن ينقذكم سواكم. لا يوجد في العالم من يريد تكرار تجربة الفشل الامريكي في العراق. فضلا عن ان للعالم الان مشاكل كبرى كثيرة لا يحتل العراق فيها أي أولوية. الخضراء أمامكم والأوهام وراءكم فأختاروا أي الأثنين أفضل :إنتظار من يخلصكم،أو النزول لتخليص أنفسكم. أذا وقفتم في محطة قطار الخلاص فتأكدوا أنه لن يأتِ لأنها محطة أفتراضية موجودة في أذهان وموبايلات بعضهم وليس لها وجود في الواقع.