عمان – الراصد 24:
أمضى الشاذلي القليبي 48 ساعة في الكويت بانتظار وصول وزير الخارجية السعودي لإبلاغه ما جرى في اجتماعاته ببغداد لكنه تركها وهو يشعر بالإحباط لأن الوزير لم يظهر.
وعندما انتهت مقابلة غلاسبي للرئيس صدام توجه طارق عزيز بعد أن حضر المقابلة إلى فندق الرشيد لتناول الغداء مع القليبي الذي كان قد وصل إلى بغداد في ذلك اليوم.
وفيما كان عزيز ينفث دخان سيجاره ويشرب كأسا من الويسكي واصل التصلب الذي أظهره في 17 تموز عندما سلمه المذكرة.
تحدث عزيز عن المؤامرات التي ضد العراق وقال بأن الولايات المتحدة ضالعة فيها.
وقال: “إن عدالة موقف العراق شيء مؤكد، وأضاف بأن على الاسرة الحاكمة في الكويت أن ترحل وأنهم يسرقون النفط ويحاولون تدمير الشعب العراقي.
كان القليبي قد سمع حسني مبارك يقول للكويتيين والأميركيين بأن صدام حسين قال له لن يكون هناك عزو للكويت. فسأل القليبي طارق عزيز: “ماذا قال صدام حسين لمبارك؟”، وأجابه عزيز وهو ينفث دخان سيجاره: “لا أعرف ما الذي قاله له.
لكن ما أعرفه هو أن كل شيء يعتمد على اجتماع جدة في 31 يوليو مع الكويتيين. فكل شيء يتوقف عليه”.
وفي مساء ذلك اليوم توجه القليبي إلى الكويت لابلاغ الأمير.
في 26 تموز وهو اليوم الذي اكتشفت فيه المخابرات احتشاد أكثر من 000 ,30 جندي عراقي على حدود الكويت قام القليبي بإبلاغ أمير الكويت وولي العهد ووزير الخارجية الكويتيين ما جرى في اجتماعه ببغداد.
فساور القلق الزعماء الكويتيين ولكنهم ظلوا مقتنعين بأن الغزو لن يقع.
وذكر القليبي اجتماع القمة بجدة في 31 يوليو. فقيل له بأن السعوديين والمصريين سوف يعملون على انجاحه.
لكن ما لم يعرفه القليبي خلال وجوده في هذه الاجتماعات هو أن الأمير تلقى في اليوم ذاته رسالة هامة من الملك فهد يرحب هذا فيها بحضوره إلى جدة في 31 يوليو للمشاركة في مؤتمر جدة.
وجاء فيها: “في الوقت الذي اتطلع فيه إلى هذا الاجتماع الأخوي أود أن أقول بأنني على يقين تام من أن حكمتكم وبعد نظركم سوف يحققان أهدافنا بمشيئة الله ويرسخان الحب والتفاهم بين الدولتين الشقيقتين”.
ومن الواضح أن الملك قصد التأكيد للأمير على أهمية توصله في مؤتمر الكويت إلى اتفاق مع العراق. لكن الأمير كان قد قرر عدم حضور المؤتمر مما أغضب صدام حسين فيما بعد.
ودون ملاحظة على رسالة الملك فهد إليه يطلب فيها من أخيه الشيخ سعد ولي العهد أن يمثله في ذلك المؤتمر. وورد في الملاحظة قوله:
“ينبغي أن نحضر الاجتماع وفقا للشروط السابقة. ومن المهم أن لا ننسى مصالحنا، وعليه فلا تأبه لما قد يقوله لك السعوديون والكويتيون عن الأخوة والحفاظ على التضامن العربي فلكل طرف مصالح عليه أن يرعاها.
إن السعوديين يريدون إضعافنا واستغلال تنازلاتنا للعراقيين وذلك لكي نقدم لهم تنازلات في المنطقة المنزوعة السلاح. أما العراقيون فيريدون تعويض خسائر الحرب من مواردنا.
ولن نستجيب لمطالب أي منهما.. وذلك أيضا هو موقف أصدقائنا في مصر وواشنطن ولندن.
ونتمنى لك حظا سعيدا”.
وبعث الأمير برسالة إلى الملك فهد يشكره فيها على دعوته ويبلغه بأن أخاه سيمثله ويبدو فيها في غاية التفاؤل بقوله:
“دعني اشكرك وأثني على مجهودك الأخوي وحكمتك وبعد نظرك. ونحن على يقين من اجتماعنا برعايتكم ودعمكم سوف يؤدي بمشيئة الله إلى النتائج المرجوة والى التخلص من المصاعب والى المتبادلة والحب للجميع”.
وكانت الرسالتان والملاحظة لولي العهد مؤشرات هامة على أن قمة جدة لن تنجح.وفي 27 تموز ارسلت وكالة المخابرات المركزية للبيت الأبيض صورا جوية لحشود متزايدة من الرجال والعتاد.
فبادرت واشنطن إلى تحذير الكويت ومصر والسعودية.
لكن ردود هذه الدول على التحذير أجمعت على استبعاد فكرة الغزو وتحدثت عن “ابتزاز عراقي” للحصول على جزيرتين كويتيتين في الخليج وعلى حقل نفط متنازع عليه.
وشاركتهم الرأي وزارة الخارجية الأميركية ومجلس الأمن القومي.
وفي 18 يوليو أخذت تقارير وكالة الاستخبارات المركزية تبدو أكثر دقة وتنذر بالمزيد من الخطر.
إذ ذكرت أن الرئيس العراقي أنشأ خطوط إمداد واسعة لقواته العسكرية المتمركزة على الحدود، كما أشارت بوجه خاص إلى العدد الكبير من الشاحنات الذي يوفر الدعم اللوجستي.
وكان وليم وبستر مدير الوكالة مقتنعا بأن مثل ذلك الدعم اللوجستي ضروري إذا كان الغرض من العملية مجرد الترهيب.
في 28 تموز نفسه، قابل ياسر عرفات صدام حسين الذي طلب منه الذهاب إلى الكويت وقال له: “تحدث مع الأمير وأبلغه أنه إذا دفع عشرة مليارات دولار مقابل استثماره حقل الرميلة النفطي على الحدود، فسوف اسحب بعض قواتي”.
ولم يقل صدام حسين لعرفات بأنه لا يعتزم غزو الكويت.
وفي 29 تموز وصل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية إلى الكويت.
واضطر إلى انتظار ساعات طويلة قبل مقابلته الأمير.
وما أن بدأ عرفات بعرض الاقتراح العراقي حتى قاطعه الأمير جابر بفظاظة: “لا أريد النقاش في هذا الموضوع. فخلال ثمانية وأربعين ساعة سأكون في طريقي إلى جدة لعقد قمة مع العراق ولنتكلم بدلا من ذلك عن الهجرة اليهودية السوفييتية إلى إسرائيل”. كان الاحتقار والجفاء يطغيان على لهجة الامير.
وبالرغم من المهانة التي شعر بها عرفات فإنه لم يستطع أن يقول شيئا. فالكويت كانت الممّول الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وبحلول 30 تموز صار بمقدور وكالة الاستخبارات المركزية تكوين صورة تقديرية واضحة للحشود العراقية قرب الحدود الكويتية: 000 , 100 (مائة ألف) جندي عراقي بينهم قوات النخبة التابعة للحرس الجمهوري، 300 دبابة و300 مدفع ثقيل. وكانت واشنطن لا تزال تلتزم الصمت.
ولم يقطع حبل الصمت إلا عندما دخل جون كيلي في اليوم التالي مبنى الكابيتول ليدلي بشهادته أمام لجنة الشرق الأوسط الفرعية التابعة لمجلس النواب.
وبعد أن أدلى بها أجاب بهدوء على الأسئلة التي وجهت إليه وخصوصا أسئلة النائب لي هاملتون الذي قال: “ورد في الصحف تصريح لوزير الدفاع ريتشارد تشيني يقول فيه إن الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن الكويت إذا هوجمت.
فهل هذا هو ما صرح به؟ هل يتفضل السيد كيلي بتوضيح هذا الأمر؟”. فرد كيلي بقوله: “لا أعرف التصريح الذي تشير إليه. ولكنني واثق من موقف الحكومة من هذه القضية. ليست هناك معاهدة بيننا وبين دول الخليج. هذا واضح. ونحن ندعم استقلال وأمن جميع الدول الصديقة في المنطقة.
ولنا قوات بحرية في المنطقة منذ عهد ادارة ترومان وذلك لأن استقرارها يخدم مصالحنا.
ونحن ندعو إلى حل سلمي لجميع النزاعات ونعتقد بوجوب احترام سيادة كل دولة في الخليج”.
فقال لي هاملتون: “وماذا سيكون موقفنا من استخدام القوات الأميركية إذا تجاوز العراق مثلا الحدود الكويتية؟”.
فرد كيلي بقوله: “هذا سؤال افتراضي لا أستطيع التعرض له.
واكتفي بالقول بأن هذا سيكون موضع اهتمامنا الشديد ولكني لا أستطيع الخوض في ميادين الافتراض”. فسأله لي هاملتون: “لكن إذا حدث شيء من هذا فهل يكون موقفنا صحيحا إذا قلنا بأنه لا توجد معاهدة أو التزام يوجب استخدام القوات الأميركية؟”. فأجاب كيلي: “هذا صحيح تماما”.
وأذاعت محطة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) تصريحات كيلي وسُمعت في بغداد. وعليه ففي هذا الوقت الحرج وعندما السلم والحرب في الميزان أرسل كيلي إشارة إلى صدام يمكن اعتبارها تعهدا بعدم تدخل الولايات المتحدة.
ولا يوجد في تاريخ الدبلوماسية الأميركية الحديث سوى خطأ واحد في الحسابات مثل هذا وذلك عندما قال دين أتشيسون وزير الخارجية للكونجرس عام 1950 بأن “كوريا الجنوبية ليست في مجال الدفاع الأميركي”.
وفي اعقاب ذلك قامت كرويا الشمالية بغزو كوريا الجنوبية.
وفي اليوم ذاته غادر ثلاثة من المسؤولين العراقيين بغداد إلى جدة للاجتماع بالوفد الكويتي ومواصلة المفاوضات. وكان هذا الاجتماع آخر خيط رفيع يربط العالم “بمنطق السلم” وكان هذا الخيط على وشك الانقطاع.
وقبل موعد الاجتماع بثلاث ساعات فقط أعلن أمير الكويت بأنه لن يحضره وأن ولي العهد سوف يمثله فيه.
وكان لهذا النبأ وقع “الإهانة القاتلة” على صدام حسين، وقرر هو الآخر عدم الذهاب إلى جدة وإرسال عزت إبراهيم الرجل الثاني في حزب البعث.