بقلم / أ. د عبد الستار الجميلي
في الدول المستقرة يمثل الدستور أحد عوامل الإستقرار، لما يتضمنه من أسس موضوعية نابعة من إرادة الشعب،وخصوصية القيم والاتجاهاا الفكرية والفلسفية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع ومصالحه العليا وإطاره الحضاري والثقافي ونظامه العام وآدابه وقيم وحاجات أفراده، التي تترجم كمبادئ وقواعد في صميم النصوص الدستورية، ما يكسبها صفة السمو والعلوية على الكافة: السلطات والمواطنين،ومعيارا لشرعية السلوك الفردي والجماعي، والرسمي والشعبي.وحتى يكون الدستور شرعيا بداية، لا بد من تحقق شرطين: الأول يتمثل بشرعية السلطة أو اللجنة المؤسسة للدستور التي تكتسب شرعيتها إما بالإنتخاب أو الإستفتاء. وثانيهما أن يعبر الدستور موضوعيا عن الواقع السياسي والإجتماعي والإقتصادي والثقافي والقيمي لشعب من الشعوب وشكل الدولة ونوع النظام والحكومة اللذان يعبران عن الإرادة العامة وسياقها التاريخي والمجتمعي.
لكنما دستور ٢٠٠٥ النافذ في العراق، أصبح ومنذ أول يوم لتمريره بإستفتاء، كان وما يزال مثار شكوك وتساؤلات، أصبح معطَّلا ومعطِّلاً في نفس الوقت.. فقد كتبته لجنة غير شرعية لم ينتخبها ويستفتي عليها أحد، إنما تم إختيارها وفقا لمعايير طائفية وعرقية لا تمت بصلة لمبادئ وقواعد الدساتير الحديثة،والبعض ممن تم إختيارهم، مع الإحترام الكامل لشخصياتهم، لايملكون حتى الحدّ الأدنى من المعرفة القانونية والسياسية والفنية لكتابة ومعنى الدساتير. لكن الهدف كان مجرد ملئ فراغات وديكور وغطاءً للأطراف المحلية والإقليمية والدولية التي كانت وراء إخراج دستور بهذه الطريقة المستعجلة والهشة والمتناقضة، مبنى ومعنى، للوصول إلى الهدف المُضمر بإعطاء شرعية دستورية لشكل الدولة ونوع النظام السياسي اللذين يراد فرضهما على الشعب العراقي، وشرعنة الإجراءات التي تعقب إقراره. وهي إجراءات زرعت بذور تمزيق النسيج الوطني والمجتمعي، التي كان حصادها مراً على صعيد الإستقرار السياسي والأمني والإجتماعي والإقتصادي والسلم الأهلي وإدارة الدولة ومبدأ المواطنة والعلاقة بين المواطنين. ليصبح الدستور بذلك نموذجا للكيفية التي يمكن من خلالها العصف بالدولة وتمزيق الشعب وزرع بذور الكراهية بين أبناء الشعب الواحد، ولكن كيف؟ سنشير إلى بعض أوجه الخلل في الدستورذات الإنعكاسات السلبية على مجمل الأوضاع العامة في العراق، على سبيل المثال وليس الحصر:
1. الديباجة والوحدة الوطنية: بدأ الدستور بديباجة تتضمن رؤية طائفية وعرقية ضربت الوحدة الوطنية وفكرة وسمو الدستور في الصميم، فلم يتحدث الدستور عن مآسي الشعب العراقي بشكل عام والجرائم التي أُرتكبت ضده، ولكن عن تجزئة وتقسيم للمآسي لتبرير الرؤية التقسيمية والبناء عليها، من خلال المواد التي تم إختيارها بعناية لتخدم الهدف التقسيمي المضمر للديباجة، بتحويل العراق إلى ((مكونات)) وهمية إنفصالية ومُنفصلة.
2. الفيدرالية: مع أنّ الفيدرالية بالأصل هي فكرة توحيديةوتقسيم للصلاحيات بين المركز والأقاليم، في دول ذات مساحات واسعة وكثافة سكانية عالية تستدعي قدرا من اللامركزية لضمان إدارة رشيدة للدولة وحسن سير الإدارة والخدمات، إلاّ أنّ الفيدرالية التي أشارت إليها المادة الأولى بالنصّ على أنَّ العراق دولة إتحادية فيدرالية، بين إقليم أمر واقع بغطاء دولي، وأقاليم ستُشكل مستقبلاً؟! تعزّزتتقسيميا في البابين الرابع والخامس، بإعطاء الصلاحيات للأقاليم كأصل على حساب المركز الذي أعطى صلاحيات إستثنائية بما يجزئ السيادة العراقية حتى في مظهرها الخارجي الذي هو من إختصاص السلطة الإتحادية في كل التجارب الفيدرالية، وصلت إلى حدّ منح مكتب تمثيلللأقاليم داخل كل سفارة(م 121/ رابعاً)، وصلت في بعض السفارات إلى حد إنزال العلم العراقي ورفع علم خاص بدلا عنه. ما يعني أنّ الفيدرالية في الدستور العراقي قد تم تقنينها بطريقة تضمن التمهيد للتقسيم مستقبلا، حيث تم ترجمتها طائفيا وعرقيا على مستوى السلطات، بحيث يكون رئيس الجمهورية من عرق معين ورئيس الحكومة من طائفة محددة، ورئيس البرلمان من طائفة أخرى، والنزول بهذه المحاصصة بعد ذلك إلى جميع مستويات السلطات والمؤسسات، وفي مقدمتها الوزارات والمؤسسات العسكرية والأمنية والتربوية والتعليمية والدبلوماسية، ما أحدث تمزيقا مقننا للدولة بعناصرها الثلاثة الأرض والشعب والسلطة، وتجزئة للسيادة بمظهريها الداخلي والخارجي التي لا تقبل بطبيعتها التجزئة، وتقاسم للثروة ليس على أساس الحقوق الطبيعية للشعب بمجموعه كمالك للثروة وفق نص الدستور(م111) عن طريق الإدارة والخدمات والتنمية وغير ذلك من قنوات التوزيع العادل للثروة، ولكنمن خلال العبث بهذه الثروة طائفيا وعرقيا وتحويل المال العام إلى مال سائب لا مالك له، من دون مسائلة ومحاسبة وخطة إقتصادية ومالية تحافظ على أصول الدولة ومجالها العام. وكل ذلك تحت عنوان الديمقراطية والتوازن كمصطلح مهذب لإخفاء التقاسم والتقسيم وفق ثنائيات وهمية لا مكان لها في علم وفن إدارة الدول ومعايير العصر.
3. الهوية والتعددية: هوية أية دولة ذات خطورة على الصعد كافةوفراغها وأزمتها تهديد مباشر للأمن الوطني للدولة، حيث ينعكس هذا التهديد خللاً يُصيب الإستراتيجية العليا للدولة في تحديد المصالح والإمكانيات والأهداف والأصدقاء والحلفاء والأعداء ومصادر التهديد والمخاطر إرتباطاً بالواقع الجيو سياسي محلياً وإقليمياً ودولياً. ففي العلوم السياسية والقانونية والإجتماعية بشكل عام، يوصف المجتمع بأنه متجانس إذا كانت نسبة الأغلبية السكانية فيه من 80% فما فوق، لكن الذي حدث أن القوى المهيمنة على لجنة كتابة الدستورحرصت على تصوير العراق على أنه مجموعة جزر طائفية وعرقية غير متجانسة، عبر سحب المحاصصة الطائفية والعرقية بشكل متعسف على نصوص الهوية في الدستور للإلتفاف على هوية العراق العربية بحكم حقائق الجغرافية والتاريخ والأغلبية العربية التي تتراوح ما بين 85- 87%، وذلك من خلال تثبيت نص ملتبس وحمّال لأكثر من وجه، يتضمن الإشارة إلى أن العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وعضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها وجزء من العالم الإسلامي(م3(، وأن الدستور يضمن الحفاظ على الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي(م2/ ثانياً) وكلّ ذلك بديلا عن النص المستقر في جميع الدساتير العراقية منذ تشكيل الدولة العراقية وإلى ٢٠٠٣، بتأكيد إنتماء العراق العربي، كتقرير لحقيقة إجتماعية وتاريخية وجغرافية ولا علاقة لها بالحساسيات والصراعات السياسية والأيديولوجية والطائفية والعرقية التي إنطلق منها البعض لتفكيك الهوية العربية، دون إدراك أن تفكيك هوية أي بلد سينعكس سلباً حتى على أصحاب هذا التفكيك. ومن جانب آخر، كيف يمكن النزول بالإسلام الحنيف إلى مفهوم الهوية الدنيوية الذي يرتبط إجتماعياً بالإنتماءات الوطنية والقومية ولا علاقة له بالإسلام كرسالة للكافة، وكذلك أمر الأديان جميعاً؟ (ربط الهوية بالدين حجة جاهزة بيد الكيان الصهيوني لإضفاء الصفة اليهودية على كيانه). هذه النصوص المُفكِكة بتعسف مقصود للهوية أحدثت فوضى وإرباكاً سياسياًوإدارياً ومؤسسياً، وأثارت ردود فعل وشكوك الغالبية العربية التي جرت محاولات لإضعافها عن طريق فرض ثنائية طائفية كانت وماتزال إجتهادات دينية مجالها الدين وليس السياسة وإدارة الدول والإنتماءات الإجتماعية والحزبية. إقرار هذه الحقيقة لا نقصد منها إلغاء وجود وإحترام الأقليات القومية والإثنية والدينية في العراق وحقوقها الدستورية والمواطنية والإنسانية من الدرجة الأولى، وإنّما فقط التنبيه إلى أحد أوجهالخلل في الدستور التقسيمي.
4. الثروات الوطنية السيادية: مع أنّ الدستور نصّ في م/111على أن” النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات“، بإدارة مركزية إنتاجاً وتوزيعاً وتسويقاً وإنتفاعاً (م112)، إلا أن النفط تحول إلى سلعة خاصة تتقاسم جلّها كتل المحاصصة، حتى وصلت منافذ تهريبه إلى أفغانستان والكيان الصهيوني، وتحت مظلة الدستور؟!.
5. النهايات السائبة: تضمّن الدستور الكثير من النهايات السائبة غير الحاسمة، خصوصاً ما تعلق بحل مجلس النواب ومحاسبة أعضاء البرلمان، والسياق المترتب على الفشل بإنتخاب رئيس جمهورية بعد ثلاثين يوما من عقد أو جلسة لمجلس النواب، والإلتفاف على مبدأ الفصل بين السلطات. فعلى سبيل المثال: المبدأ في القانون الدستوري أن مجلس النواب يراقب ويُشرع ولكنه لا يحكم، لكن مجلس النواب العراقي يراقب ويشرع ويحكم ويتدخل ويُعيّن وغير ذلك الكثير.
6. تعديل الدستور: نصت المادة 142/ رابعا على “التعديل المستحيل“ للدستور بإشتراط موافقة أغلبية المصوتين، إذا لم يرفضه ثلثا المصوتين في ثلاث محافظات أو أكثر، وهو نص مفصّل ضمنيا على محافظات كردستان الثلاثة. وقد كان الجميع يدرك أن ولادة الدستور لم تكن جزءاً من سياق سياسي وإجتماعي وإقتصادي وقيمي طبيعي، وبالتالي ضرورة تعديله، فقد قُدمت ورقة مكتوبة من بعض الأطراف تتعهد فيها بتشكيل لجنة لتعديل الدستور بعد ثلاثة أشهر من تمريره. وفي ٢٠٠٥ تبنت الجامعة العربية مؤتمراًللحوار والمصالحة، جمعت تحت مظلته أغلب إن لم يكن جميع الأطراف السياسية، وبعد حوار صعب تم الإتفاق على تعديل الدستور، وكان لي شرف كتابة صيغة التعديل المطلوب، بالتأكيد على ضرورة التعديل الجوهري لجميع مواد الدستور، وأشدد هنا على ((التعديل الجوهري))، و((جميع مواد الدستور))، ووافق الجميع، لكن بمجرد العودة إلى بغداد لم يصار لا إلى تعديل جوهري ولا شكلي ولا لجميع او لجزء من مواد الدستور، وكل دورة برلمانية تُشكّل لجاناً لتعديل الدستور. لكن الدستور يأبى أن يتزحزح مادام يضمن المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة، ويضمن فوضى ((الإستقرار المستحيل))، على أمل أن تأتي لحظة منتظرة ليكون ((التقسيم المحرَّم)) دواء لداء الطائفية والعنصرية الذي أصاب البعض وإستشرت خلاياه السرطانية في جميع مفاصل العملية السياسية الدستورية.
وكانت محصلة الدستور أن الشعب العراقي وجد نفسه أمام منظومات موازية متعددة: أكثر من دولة داخل الدولة، وأكثر من هوية وإنتماء، وأكثر من سيادة وعلم، وأكثر من جيش وسلاح، وأكثر من سفارة وممثليات، وأكثر من مرجعيات داخلية وخارجية.. والنتيجة المنطقية لكل ذلك وصول العراق إلى مصاف الدولة الفاشلة، وشلل الإدارة والخدمات ونهب الثروات والمال العام، وتجذر الإستبداد والفساد في بنية النظام الطائفية والعرقية، وإنفتاح الحدود لشتى أنواع الإحتلال والتدخل والتموضع والإرهاب الإقليمي والدولي، وغير ذلك الكثير. ولن يشفع للدستور ما تضمنه الباب الثاني من درج حرفي لنصوصالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهدين الملحقين به لعام 1966، للحقوق السياسية والمدنية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، فقد أجهضتها مآلات الفيدرالية التقسيمية.
لذلك فإنّ أيّ حديث عن الإصلاح حتى وان كان صادقاً ونواياه سليمة، لن يُثمر أيَّ نتائج إيجابية، فالمقدمات المتشابهة تقود إلى نفس النتائج المتشابهة، وبالتالي فإن الدستور الحالي هو أس الإشكالية في تعميم الفوضى وعدم الإستقرار وتراكم الأزمات وغياب اليقين، وأفضل وصفة لــ” الإستقرار المستحيل”.وما نعيشه حالياً من أزمة سياسية بعدم تشكيل حكومة بعد أكثر من ستة أشهر على الإنتخابات، هو نتيجة طبيعية للعطل البنيوي للدستور، الذي لم يتضمن، من ببن ما لم يتضمن، سياقاًقانونياً محدداً في حال لم يتم إنتخاب رئيس جمهورية بعد ثلاثين يوما من أول جلسة لمجلس النواب (م72/ ثانياً/ ب)، ما أدخل العراق بفراغ سياسي ودستوري. الأمر الذي يتطلب، وبغض النظر عن مواقف ومصالح الكتل البرلمانية، اللجوء إلى القواعد العامة في الدساتير أو إلى مفهوم المخالفة، وبالتالي حلّ البرلمان والدعوة لإنتخابات جديدة إما بمبادرة من المحكمة الإتحادية، أو رئيس الجمهورية الذي يملك صلاحية دستورية أعلى من المحكمة الإتحادية بإعتباره حاميا للدستور، في ظل الظروف الإستثنائية، وفي حال غياب أي أفق مفتوح لحل الأزمة التي تحمل بين طياتها مخاطر واقعة ومحتملة.
وبناء على ما سبق، من يريد الإصلاح ويطلبه، عليه أولا أن لا يفكر بتعديل الدستور وحسب، ولكن بإلغائه وطرح مشروع دستور جديد يتجاوز النصوص المتناقضة والمتعارضة، والتقسيمية، والإغفال التشريعي لكثير من الموضوعات التي تحتاج إلى نصوص تضع سياقاً قانونياً واضحاً لكل الموضوعاتذوات النهايات السائبة والنقص والعيب والعطل التشريعي، مستنداً على رؤية وطنية توحيدية بإلغاء الشكل الفيدرالي للدولة العراقية الذي تحول إلى سلاح قاتل بيد إنفصاليي الطوائف والأعراق، ومتبنياً لنظام ديمقراطي سليم يقوم على اللامركزية الإدارية ومبدأ المواطنة والتداول السلمي للسلطة، ونظام رئاسي برلماني مختلط، ومبدأ فصلٍ حقيقي بين السلطات، والموازنة بينها. فمثلما للبرلمان حق المراقبة والتشريع فيجب أن يكون للسلطة التنفيذية حق حل البرلمان دون العودة إليه، وتثبيت آليات الإستفتاء الشعبي حول القرارات الهامة، والإقتراح الشعبي من قبل الناخبين للقوانين التي تخدم الشعب، والعزل الشعبي للنائب الذي يحيد عن واجبات النيابة بتفعيل آليات الشرعية الإنتخابية السابقة واللاحقة، ومحاسبة الفاسدين وإسترداد الأموال المنهوبة، وتجريم الطائفية والعنصرية، وبناء المؤسسةالعسكرية والأمنية على عقيدة وطنية ومهنية وحصر السلاح بيد الدولة، وغير ذلك من الجوانب ذات الأهمية الخاصة بتشريع دستور وطني توحيدي وجامع، ينقذ العراق من إشكالية “الإستقرار المستحيل” في ظلّ الدستور الحالي.