بغداد – الراصد 24
يسجل التاريخ خريطة الاستقرار التي أرادها الشيخ عبدالله السالم للحفاظ على سيادة الكويت وصون استقلالها وتأمين وحدتها وتعميق هويتها والتزام مواطنيها بترابها، ونهجها المتوارث في الاعتدال والانفتاح وتعزيز التآخي مع جميع أطراف الجوار، وتعميق أوصال الترابط مع المملكة العربية السعودية، وتأمين علاقات طيبة وودية مع جميع الدول العربية.
فمن يطلع على ما نشر في الأرشيف البريطاني حول مداولات الشيخ عبدالله مع حكومة بريطانيا سيتعرف على ما كان يشغل تفكيره حول مستقبل الكويت، فهو يطرح هذه الهموم في إطار حديثه مع المقيم السياسي البريطاني عن الخطوات التي على بريطانيا توفيرها، وأيضاً عما يجب أن يكون عليه الوضع الداخلي الكويتي لكي يتفاعل مع التطورات الجديدة في نظام الحكم، بتأكيد أهمية التشاورية بين الشعب والقائد، في تبدل جوهري يخرج الكويت من حصر السلطة بالحاكم إلى دور ثنائي مشترك بين الأمير وشعبه، عبر دستور يرتكز على سيادة القانون واستقلالية القضاء، وسلطة تشريعية تؤمن دوراً لممثلي الشعب، يكون اختيارهم بالاقتراع السري، وسلطة تنفيذية يكون سمو الأمير- أو من يمثله- رئيسها، تستهدي بالمبادئ التي يجسدها الدستور.
كان الشيخ عبدالله السالم مدركاً تماماً لحاجة الكويت إلى رادع أمني من خارج حدودها يساهم في دعم التجهيزات التي تبنيها الكويت لتأمين مسارها واستقلالها، وكان راصداً لماضي الكويت ودور الحماية البريطانية في إبعاد الطامعين عنها، وعلى يقين بأنها بمفردها لا تقدر على النهوض بهذه المسؤولية، ولهذا وقّع اتفاقاً أمنياً مع بريطانيا مدته سبع سنوات لعل الكويت تقدر أن تؤمن خلالها رساخة لاستقلالها، اعتماداً على إمكاناتها عبر انتسابها لعضوية الجامعة العربية والأمم المتحدة.
هكذا جاءت حساباته، التي أشغلته لأنه على علم بطموحات الجيران، وعلى حذر من أسلوب الإغراءات التي يطرحونها، ولم ينتظر طويلاً فبعد أسبوع من إعلان الاستقلال جاء ادعاء عبدالكريم قاسم وحكمه البائس، متطاولاً على حقائق التاريخ وسجلاته، مما دفع بالشيخ الجليل إلى طلب مساعدة بريطانيا لردع تهديداته، ولم يهنأ طويلاً، فقد خرج صوت القاهرة الثوري يحذر من مخاطر تواجد ألفي جندي بريطاني على أرض الكويت بأن فيه تهديداً لأمن الأمة العربية.. هكذا جاء بيان القاهرة..
وتدخل الكويت وشيخها في أزمة غير متوقعة، جاءت من معارضة انضمام الكويت إلى الجامعة العربية وإلى الأمم المتحدة، ويشجع المعارضة الناصرية موقف الاتحاد السوفيتي السلبي تجاه الكويت، ورغم الأزمة غير المتوقعة، فقد استمر حاكم الكويت في تنفيذ تصوراته عن آليات الحكم في الكويت، مبتدئاً بترحيب بفوز عشرين مواطناً عبر الانتخابات، لوضع الدستور الذي كان يريده كوثيقة حكم تشاركية تلتزمها الدولة كخريطة جديدة لنظام الحكم.
جاءت ولادة الدستور، من فكر الشيخ عبدالله السالم الذي كان سابقاً جيله في الاستنارة، وفي تحسسه للتهديدات الموجهة ضد الكويت، وفي تشخيصه للضرورات التي تؤمن الوحدة الوطنية، فاختار سطوة القضاء، وتأكيد المساواة وتأمين حرية الرأي واحترام جميع الأطياف والمذاهب.
وفوق ذلك، كان أمير الكويت مشخصاً بارعاً لأحوال الكويت، يردد في مفرداته عن حاجة الكويت إلى نصير صادق يساعد في آليات الردع، وكان مرتاحاً من علاقات الكويت مع بريطانيا، ومع ذلك كانت أولوياته تعميق العلاقات مع المملكة العربية السعودية، مبرزاً رابطة التاريخ التي جمعت الطرفين منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولم يكن مرتاحاً من الصخب الصحافي الذي تتبناه صحافة الكويت، وكان له تشخيص بأن من يحكم بالقوة سيتم التخلص منه بالقوة نفسها، مع رغبته في المزيد من التعاون مع المملكة وخفض حدة الإشادة بدور الثوريين العرب، فهذه الأنظمة معرضة للتقلبات، كما لم يكن من الهاضمين للمسار الذي اتبعته صحافة الكويت في مفرداتها التي تحمل التجميل للأنظمة الثورية، فقد كان يتعامل بحذر متصاعد مع تطورات طلب الكويت الانضمام إلى الجامعة العربية، ومجرى المناقشات، ورصد المواقف التي لم ترحه في لغتها ولا في وضوحها. ومع بروز مقترح إحلال قوة رمزية عربية مكان القوات البريطانية، ومع كثافة التواصل بينه وبين ممثل الكويت لدى الجامعة العربية السيد عبدالعزيز حسين، وتشاوره مع الملك سعود، فقد تقبل الحضور العربي، الأمر الذي دفع الأمين العام للجامعة العربية السيد عبدالخالق حسونة إلى الحضور وبحث التفاصيل حول ترتيبات تواجدها، وطبيعة وظيفتها، ونوع علاقتها مع حكومة الكويت، ومنها تم الاتفاق على استقبال الكويت للقوة التي تكونت من قوات أردنية، وعدد قليل من السودان، وأكبر قوة كانت من المملكة العربية السعودية وهي الوحيدة التي لها صلاحية اللجوء للقوة، وأعداد من الجمهورية العربية المتحدة لها طابع فني في نظام الاتصالات وسلاح الإشارة.
وظل يتابع مناقشات المجلس التأسيسي لوضع الدستور من دون تدخل منه سوى إسداء النصح، واثقاً من قيادة رئاسة المجلس ممثلة بالسيد عبداللطيف الثنيان، وكان اهتمامه مركزاً على الأعمدة التي يقوم عليها الدستور، وهي سيادة القانون، واستقلال القضاء، وحرية التعبير، وتأكيد العدالة والمساواة، واضعاً الوحدة الوطنية أبرز الركائز في حماية الكويت والولاء لترابها، ومبرزاً الانفتاح الدستوري كنظام حكم يرتكز على وثيقة دستورية تشاركية مستنيرة تستوعب طموحات المستقبل.
ولم يتابع التفاصيل مثل اللائحة الداخلية، وكان همه تجذير المبادئ التي يحملها الدستور في قناعات المواطن وغرسها في إحساسه الوطني.
ومن المجالات التي أثارت اهتمام الباحثين عن دور الشيخ عبدالله السالم في بث الاستنارة في النظام السياسي الكويتي وتأثيراته في الخليج، موقفه من أزمة المادة 131 التي طغت على أجواء الكويت في نهاية عام 1963 وبداية عام 1964، وكيف عالجها الشيخ عبدالله السالم عندما ذهب إليه الشيخ جابر الأحمد، القائم بدور رئيس الوزراء، حيث كان الشيخ صباح السالم ينوب عن الأمير خلال غيابه، واجتمع معه في مقره في بومباي شارحاً له الوضع، وكان رأي المرحوم الشيخ عبدالله السالم استقالة الوزارة وتشكيل وزارة أخرى، فقد أدرك صعوبة حل المجلس وإجراء انتخابات جديدة مع رغبته في تعميق التجربة في التربة الكويتية.
كانت أولوياته أن تنعم الكويت بدستور قائم على المبادئ الجوهرية التي تصون وحدة الشعب، وتؤمن جماعية الدعم وتغرس الأعمدة الصلبة للحفاظ على الوطن، ولم يلتفت إلى تفاصيل مثل الاستجوابات ومظهرها المسرحي غير المناسب للكويت، ولم ير في الدستور ما يؤدي إلى بروز معارضة كويتية، لأن الوثيقة تضم كل الطوائف وتستوعب كل الآراء التي تفيد الكويت.
ومهما كان الجدل حول إفرازات الدستور، فالإجماع أنه انطلاقة كويتية نادرة، تحمي الداخل وترضي الطامح، وتطرح في منطقة الخليج مستجدات تؤمن الاستقرار وتحافظ على الأمن وتصون السيادة.
هذه المناسبة الاحتفالية ما كانت لتتم من دون الفكر المنفتح والوعي المستنير الذي تسيد حكم المغفور له الشيخ عبدالله السالم.