تيمو فيرميولين
“مَن مِن الحكام حالياً شرعي، ومن لا شرعي”، طرح هذا السؤال البلاغي، وزير الخارجي الروسي سيرجي لافروف، عام 2013 في الدورة 49 من “مؤتمر ميونخ الأمني”، ليتابع بعدها طرح سلسلة من الأسئلة: “متى يكون مقبولاً التعامل مع أنظمة قمعية؟ ومتى يكون مقبولاً دعم الحركات العنفية التي تريد الإطاحة بها؟”، ليكشف بذلك موقف روسيا من الربيع العربيّ، وخصوصاً سوريا التي تدخلت فيها روسيا عسكرياً بصورة رسمية عام 2015، لإنقاذ نظام الأسد من الانهيار.
أسئلة لافروف السابقة تدفعنا لإعادة النظر في مفهوم الشرعيّة، والبلاغة السياسية وراءها، وكيف تترجم على أرض الواقع، فمنذ منتصف القرن العشرين، مارست الولايات المتحدة (وأوروبا إلى جانبها) هيمنتها العسكرية والثقافية على العالم، عبر مساءلة شرعيّة الأنظمة “الأخرى”، تلك التي لا تتطابق مع القيم التي تدعوا إليها ( الليبرالية الديمقراطية)، والتي لابد أن ينصاع لها العالم بالقوة أحياناً، وأي “نظام” لا يطبق هذه القيم، مُهدد بأن “يُزال”، وهذا ما رأيناه سابقاً في العراق، أفغانستان ثم أوكرانيا الآن.
روسيا التي لم تتدخل في الشأن الليبي، ولا تريد تكرار التجربة الشيشانيّة، وجدت نفسها أمام فرصة سانحة لإعادة تقديم نفسها على الساحة العالمية، عبر دعم النظام السوري عام 2015 والحفاظ على استمراره، دون مسائلة شرعيته أو الإشارة إلى مبادئ “الديمقراطية” التي لا يتبناها، فسؤال شرعيّة أي نظام حكم، يبدو من وجهة نظر روسيا شأناً داخلياً، وليس دولياً، ولا دور لـ”القوى الكبرى فيه”، فالتدخل في سوريا مثلاً، حسب لافروف عام 2017، كان “لإنقاذ النظام من الانهيار خلال أسابيع”، ذات الأمر سابقاً مع قاديروف، بالرغم من انتهاكات حقوق الإنسان المتهم بها، مهمته (بأمر من روسيا) هي إعادة بناء الدولة، ومع اجتياح أوكرانيا حالياً، تكشّف أكثر النموذج الروسي لـ”الغزو” و”التحرير”، لنرى أنفسنا الآن أمام موقفين أيدولوجيين من الشرعية والسيادة المحلية، وكيفية التعامل معها من قبل دولة كبرى تمتلك حق الفيتو.
لا تسائل روسيا شرعيّة الأنظمة الديكتاتورية، وترى أن علاقة هذه الأنظمة مع مواطنيها شأن داخلي، لا يجوز التدخل به أو مساءلته
“بلاغات” الغزو ومفارقاته
الملفت للنظر في النموذج الروسيّ هو توظيف بروباغاندا اللايقين كتمهيد للحرب، إذ بدأ الحديث عن الغزو الروسي عبر الإشارة إلى فيديو مفبرك لم يصور بعد سينتجه الإعلام الروسي من أجل تبرير غزو أوكرانيا، هذا الفيديو غير الموجود و”اللاحقيقة” المرتبطة به، جزء من خطة روسية للغزو، كشفتها الولايات المتحدة، واستبقت الحدث إن صح التعبير، لكن لابد من الإشارة إلى أن هذه التقنية سبق وأن نجحت في سوريا لمحاولة نفي استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، لنصل إلى حالة من اللايقين، تنفي قدرة الصحافة على إنتاج “الحقيقة” و رصد مبررات الغزو العسكري.
حين نقارن ما سبق مع غزو العراق ، نرى أن المبرر الأمريكي اعتمد على معلومات استخباراتية، سريّة، لم يطلع عليها أحد، نُطقت علناً، مفادها أن صدام حسين يمتلك أسلحة نووية وكيماويّة، والتي، حسب جورج بوش الابن، “تهديد يجب أن يؤخذ على محمل الجد”، هذه المعلومات تبين لاحقاً أنها مغلوطة، لكنها شكلت لحظتها تهديداً لأمن العالم، لا فقط الولايات المتحدة، فالعداوة مع صدام حسين والتخلص منه يهدف لتحرير المنطقة من شروره، ذات الأمر مع طالبان التي آوت “عدوّ” الولايات المتحدة أسامة بن لادن، ولا بد من التخلص منها لإنقاذ العالم.
يتبنى النموذج الروسي في العلاقة مع “السكان الأصليين” بلاغة مختلفة عن تلك التي نتلمسها في السرديات الأوروبية والأمريكيّة، فالسكان الأصليون من وجهة نظر روسيا، أشقاء، كحالة الشعب الأوكراني (هدف بوتين بعيد المدى هو إذابة أوكرانيا في روسيا)، أو أصدقاء، كحالة الشعب السوريّ، وحسب الخطاب الرسمي الروسي، على اللاجئين السوريين العودة لبناء البلاد وتحديد شكل الدولة التي يريدونها، “فعملية الإصلاح لن تكون سهلة”، في ذات الوقت هناك رهان على تاريخ سوريا الطويل مع الاتحاد السوفيتي سابقاً، إذ تجمع البلدين علاقة صداقة وتبادل ثقافي وغيرها من المبررات التاريخيّة التي أخذت شكل دبلوماسيّة إنسانويّة، نتلمسها في زيارة طفلة سورية لبوتين، وأخرى روسية لأسماء الأسد.
الحوار الآن بين تركيا وإيران وروسيا من أجل تحديد مستقبل سوريا، ولا دور لنظام الأسد فيه بصورة فعالة، صحيح أنه لم ينهر، لكنه فقد قدرته على اتخاذ القرار
يظهر الروسي أيضاً بوصفه مدافعاً عن الشعبين الأوكراني والسوري، يقف بجانبهم ضد الإرهابيين، أما في حالة الولايات المتحدة وأوروبا، الموقف مختلف، فالتدخل العسكري يهدف لتحرير السكان الأصليين المقموعين، المحرومين من حقوقهم والمنتهكة “إنسانيتهم”، هم شعوب تمتلك “قدرات هائلة” لكنها غير قادرة على الاستفادة منها، ناهيك أنهم يعيشون في ظل ظلم يمنعهم من ممارسة “الديمقراطيّة” واستعراض هوياتهم المختلفة. هم ليسوا أشقاء أو أصدقاء، بل شعوب أقل حظاً لابد من مساعدتها.