عبدالامير المجر
العراق وايران وتركيا، ثلاثة بلدان متجاورة ومتنافسة ايضا، يختلفون فيما بينهم بالكثير ويلتقون على الاكثر الذي يجبرهم على الالتقاء، شاءت حكوماتهم ام ابت، لان المسالة لا تتعلق بمزاج حكومات او تعارض ايديولوجيات، بل بمصالح عليا لدول. نستطيع القول ان قضية مشتركة واحدة ومصيرية، تجمعهم بين مدة واخرى، او تتحكم ببارومتر علاقاتهم بشكل عام، قبل ان يعودوا الى مشاكلهم او خلافاتهم التقليدية، وهي (الدولة الكردية) المؤجلة، التي ترى كل من ايران وتركيا، ان قيامها في شمالي العراق، يعني اشتعال المناطق الكردية في جنوب شرقي تركيا وشمال غربي ايران، وبفعل هذا، اسهمت الدولتان الكبيرتان، الجارتان للعراق في تدمير مشروع الحكم الذاتي الذي اقرته الحكومة العراقية في العام 1970، وتم لهما ذلك بمساعدة وتدخل الولايات المتحدة الاميركية، لان الدولتين كانتا معا، وقتذاك، في حلف الناتو، ومجاورتين للاتحاد السوفيتي، العدو الستراتيجي للغرب، وان أمن هذين البلدين واستقرارهما، قضية امن قومي اميركي غربي ايضا، وهو ما لم تضعه حكومة بغداد بالحسبان، حين اقدمت على خطوتها الجريئة وغير المدروسة جيدا ايضا، ونقصد اقامة كيان سياسي كردي على حدودهما .
في تلك المرحلة، كان هنري كيسنجر مستشارا للامن القومي ومن ثم وزيرا للخارجية الاميركية في العام 1973 ولم يكتف هذا بتدمير مشروع الحكم الذاتي فقط، وانما ادخل الحركة الكردية وقتذاك، بقيادة الملا مصطفى البارزاني، في حرب مع الحكومة العراقية، بعد ان وعدوه بدعم مطلق من خلال شاه ايران، ليحصل على كركوك، التي رفضت حكومة بغداد ضمها لمنطقة الحكم الذاتي، بينما اصر البارزاني على ذلك او الغاء الاتفاق مع بغداد، وكان هذا بدفع وتشجيع من الخارج، للايقاع بالاكراد ومنع وصول مشروع الحكم الذاتي الى محطته النهائية، وقد ادرك الاكراد بعد حين، انهم وقعوا ضحية لعبة سياسية لم يقرؤوا مخرجاتها جيدا، ومن يقرأ كتاب (امة في شقاق.. دروب كردستان كما سلكتها) لمؤلفة جوفان راندل، وتحديدا الفصل الموسوم (جمعية كيسنجر السرية)، سيطلع على تفاصيل اللعبة كاملة.
كانت تركيا في تلك المرحلة تراقب التطورات في العراق، بعد اعلان الحكم الذاتي، عن كثب، ولديها تحفظ كبير على ضم كركوك، ليس بالضرورة لضمان مصالح التركمان الذين يشكلون الاغلبية فيها، لاسيما مركزها، وانما لضمان عدم قيام الكيان الكردي المقترح في جنوبيها، وربما كانت مستعدة للتدخل العسكري لمنع ذلك. وقد ادركت الحكومة العراقية، فيما بعد، ان المشكلة الكردية في العراق، هي جزء من اشكالية اقليمية ودولية ايضا، ولا يمكن حلها إلا بحل الاشكالية كلها، وهذا الحل لا ياتي إلا على يد الكبار في العالم، وهؤلاء لهم مصالح تتشابك مع مصالح دول الاقليم، ومنذ ذلك التاريخ صارت بغداد تتعاطى مع الامور بطريقة اقل عاطفية، مما كان عليه الامر في العام 1970 بعد الدرس القاسي الذي تلقنه العراق في حرب العام 1974 التي انهتها اتفاقية الجزائر في 6 اذار من العام 1975 ودفع العراق ثمن ذلك نصف شط العرب لصالح ايران وعشرات الالاف من شبابه بعد دخول الجيش الشاهنشاهي اراضيه بقيادة الجنرال (منصور بور)، وخسارة كبرى اخرى تمثلت بضياع فرصة حقيقية للسلام والاستقرار بفعل خيال البارزاني الذي ذهب بعيدا نحو الدولة، التي ستكون قاعدتها محافظة نفطية اسمها كركوك، ليبقي الجرح العراقي مفتوحا، وسيكون مدخلا وسببا مباشرا في حرب الثمانينيات الطويلة مع ايران، التي كانت تركيا خلالها مطمئنة الى ان الغرب لن يسمح لإيران باجتياح العراق، لكن ذلك لو حصل فستتدخل مطالبة بتطبيق اتفاقية العام 1926 التي انهت مشكلة (ولاية الموصل) التي باتت بمدنها الرئيسية الشمالية كافة (الموصل والسليمانية واربيل وكركوك، دهوك) جزءا من (المملكة العراقية) بعد ان وضع المستفتون امام خيارين، اما ان يكونوا مع العراق او مع تركيا، او هكذا حكم الكبار وقتذاك، بعد نهاية الحرب العالمية الاولى، وحسم الاستفتاء ذلك الصراع لصالح العراق، على ان لا يتشكل لاحقا كيان مستقل في تلك المنطقة، لكن تركيا ومن خلال قراءتها للواقع السياسي الدولي المتقلب، ترى ان قيام دولة كردية بإرادة دولية، امر ممكن، وان اتفاقية 1926 تجاوزها الواقع الدولي الجديد الى حد كبير، لذا فهي تتعامل اليوم مع العراق وإيران على انهما شركاء قضية، ولو بأساليب وأدوات مختلفة لكل منهم، تلتقي جميعها عند هدف واحد!
اما ايران التي باتت على علاقة متميزة بقوى مؤثرة في المشهد السياسي العراقي بعد العام 2003، فقد ظلت على ديدنها القديم من مسألة الدولة الكردية، وهي تعمل اليوم مع الاتراك على منع قيامها ايضا، وان دخولها في قلب المعركة ضد (داعش) وحديث قادة الحشد الشعبي القريبين منها عن دخول كركوك عنوة، بعد ان باتت تحت سيطرة البيشمركة، على خلفية تصريحات القادة الاكراد بان وضعها قد حسم لصالحهم بعد (انسحاب الجيش العراقي) منها اثر سقوط الموصل بيد (داعش)، يعيد الينا فكرة المصالح المشتركة بين الدول الثلاث، منوهين هنا الى ان العرب السنة لن يقبلوا بضم كركوك الى الاقليم الكردي، وأنهم بالرغم من تحفظ بعضهم على الحشد الشعبي، لكنهم يتعاملون معه ببراغماتية، كونه سيضمن لهم عدم ضياع كركوك ومناطق اخرى في الموصل وصلاح الدين، وفي النتيجة النهائية ان ايران لن تبقى في العراق الى الابد، وسيعود اليها جنرالاتها بعد انتهاء الحملة على (داعش) والاطمئنان على مصالح بلادهم المتمثلة بمنع تثبيت اسس دولة كردية في العراق، وهو ما يتوافق مع رؤية تركيا، ومن المؤكد ان هناك تنسيقا بهذا الشأن بين الجانبين، بالرغم من تقاطع سياسة البلدين الكبيرين المتنافسين في قضايا اخرى كالأزمة السورية وغيرها، وان خلافهما في العراق ليس على وحدة اراضيه بل على حجم النفوذ فيه، على الرغم من عدم ممانعة اكثرية عرب العراق قيام دولة كردية، لكنهم في المقابل، يعارضون ضم كركوك الى الاقليم الكردي او الدولة القادمة، لوجود قناعة راسخة لدى العراقيين بانها ليست كردية او كردستانية، وبذلك فان العناق العراقي الايراني التركي الصامت، سيستمر طويلا في المثلث الكردي حتى يقرر المجتمع الدولي ما تستطيع او لا تستطيع الدول الثلاث الوقوف بوجهه، ولننتظر لنرى ما ستأتي به الايام والأعوام القادمة.
