بغداد – الراصد 24 ..
فوجئت الاوساط السياسية والحكومية في العراق بالانقلاب الذي قاده وزير الدفاع الجزائري العقيد هواري بو مدين على الرئيس احمد بن بلا في الثالث والعشرين من حزيران 1965 وتباينت ردود الفعل بين قادة الحكم والوزراء وزعماء الاحزاب بين رافض للانقلاب او منتظر لما ستؤول اليه الاوضاع في القطر الشقيق.
كان رئيس الجمهورية وقتئذ عبدالسلام عارف حزينا وهو يسمع بان صديقه الرئيس الجزائري احمد بن بلا قد نحي عن منصبه وتم اعتقاله من قبل رفيقه في النضال ضد الاستعمار الفرنسي ووزير دفاعه العقيد هواري بو مدين ولكنه تصرف كرجل دولة ولم تجرفه العواطف ومشاعر الود والاحترام التي تربطه مع بن بلا في اتخاذ موقف معاد من بومدين واعتبر الامر شأنا سياسيا يخص الجزائريين وحدهم ، واتفق معه في هذا الرأي رئيس الوزراء الفريق طاهر يحيي بينما وقف القوميون العرب من سياسيين ووزراء وقادة احزاب مع بن بلا وعدوا الانقلاب عليه مؤامرة تستهدف تقويض منهجه الوحدوي وحماسته القومية في فرض سياسات التعريب وازالة جميع آثار الاستعمار الفرنسي الذي احتل الجزائر في الخامس من تموز 1830 لغاية الخامس من تموز 1962 (يوم الاستقلال).
كان الرئيس عبدالسلام عارف قد اصدر بيانا حول ما جرى في الجزائر اتسم بنفس سياسي هاديء وصيغة موضوعية جاء فيه 🙁 ان احداث الجزائر تستأثر باهتمام رجال الثورة في العراق وعلى رأسهم رئيس الجمهورية عبدالسلام عارف الذي يتابع الموقف في القطر الشقيق انطلاقا من حرص العراق على ثورة الجزائر، وان سيادته مع الرئيس جمال عبدالناصر على اتصال مستمر حول الموقف في الجزائر، كما ان هذه الاتصالات تضمنت بذل المساعي الحميدة للحفاظ على حياة الرئيس احمد بن بلا).
وارسل البيان الى مديرية الاذاعة والتلفزيون العامة وكان يديرها عبداللطيف الكمالي الذي أمر باذاعته على مضض دون الاقتناع به لانه كان من انصار ومؤيدي بن بلا حاله في ذلك حال اغلب القوميين والناصريين في العراق.
وظهرت الصحف العراقية في اليوم التالي وهي تحمل مقالات وافتتاحيات صيغت بما ينسجم مع البيان الرئاسي وخصوصا صحف المنار لصاحبها عبدالعزيز بركات والعرب لصاحبها المحامي نعمان العاني والفجر الجديد لصاحبها الحاج طه الفياض رغم ان الصحيفة الحكومية الوحيدة (الجمهورية) وكان يرأس تحريرها نقيب الصحفيين فيصل حسون نشرت ما يشبه العتاب لبو مدين على قيادته للانقلاب على رئيسه الذي يعد ابرز قائد في الثورة الجزائرية، وكان واضحا ان بصمات فيصل حسون المعروف بنزعته القومية وتوجهاته الوحدية قد اضفت على ما نشرته (الجمهورية) انحيازا مبطنا لبن بلا.
ويبدو ان الرئيس عبدالسلام قد استحسن ما كتبته الصحف العراقية من مقالات وتعليقات حول الانقلاب في الحزائر فاوعز الى مرافقه الرائد عبدالله مجيد بالاتصال هاتفيا بالمدير العام للاذاعة والتلفزيون عبداللطيف الكمالي لاعادة برنامج (اقوال الصحف) مساء واذاعة البيان الرئاسي في النشرات الاخبارية، وهو أمر عده الكمالي تدخلا سافرا في عمله ودخل في سجال مع الرائد عبدالله وزجره مبررا رفضه اعادة برنامج الصحافة مساء بانه يخالف الدورة البرامجية ولا يتفق مع مناهج الاذاعة والتلفزيون وان المقالات طويلة وفيها دعاية للرئيس عبدالسلام، مما اضطر مرافق رئيس الجمهورية الاتصال برئيس المذيعين قاسم نعمان السعدي ليقوم بالمهمة وعمل اللازم.
وجن جنون الكمالي عندما سمع برنامج (اقوال الصحف) يذاع مساء واستدعى السعدي وعنفه ومنحه اجازة اجبارية قائلا له: (روح لبيتكم وخلي عمك عبدالسلام يرجعك للشغل) فقد كان ابو وفاء يرحمه الله لا يرتاح للرئيس ويستخف به بمناسبة وغير مناسبة.
وذهب الكمالي يشتكي على رئيس الجمهورية عند وزير الارشاد عبدالكريم فرحان الذي ما ان سمع بما فعله الرئيس حتى قامت قائمته وبادر الى كتابة مذكرة شديدة اللهجة الى رئيس الوزراء الفريق طاهر يحيي يستنكر فيها تدخل رئيس الجمهورية في شؤون احدى المديريات التابعة لوزارته وفيما يلي نصها:
الى رئيس الوزراء المحترم
ان واجبات الاذاعة والتلفزيون خطيرة في مقدمتها بناء الانسان العربي وتعميق المفاهيم القومية والانسانية وتوعية المواطن وتربيته، ولكني لمست ان بعض المسؤولين ما زالوا يتصورون ان هذه الاجهزة وجدت للدعاية للحكام فاخذوا يضغطون على الموظفين والمذيعين فاربكوا أمور هذه الاجهزة واثروّا على مناهجها فكرهها الشعب وغرب منها.. لذا ارجو تفضلكم باصدار الاوامر للمعنيين والمسؤولين لتقدير هذه الناحية وعدم الاتصال باي موظف من موظفي المديرية المذكورة عدا مديرها العام.
عبدالكريم فرحان
وزير الارشـــاد
25 حزيران 1965
وقد تضايق رئيس الوزراء طاهر يحيي من اسلوب المذكرة وصيغتها المتعجرفة فلم يبت فيها وانما احالها الى ديوان رئاسة الجمهورية وكان يراسه الدكتور محمد بديع شريف العاني الذي عرض المذكرة على رئيس الجمهورية مساء الثامن والعشرين من حزيران 1965 .
وما ان اطلع الرئيس على فحوى المذكرة حتى ثار وهاج واتصل بالفريق طاهر يحيي هاتفيا يحتج على مضمون مذكرة الوزير عبد الكريم فرحان الذي صادف وكان في زيارة لرئيس الوزراء للبحث في مصير مذكرته، واستمع وزير الارشاد الى كلمات غاضبة قالها الرئيس عليه ومنها (ان عبدالكريم صاير يخيط ويخربط ويبين انه مخرف) وقال ايضا والفريق يحيي يقرب سماعة الهاتف من اذن عبدالكريم: (اشسوينا احنه.. كل اللي طلبناه اعادة برنامج بالاذاعة شنو انقلبت الدنيا.. قامت القيامة!).
وهنا طلب عبد الكريم فرحان قبول استقالته من الوزارة وخرج من مكتب رئيس الوزراء وهو يشتم الرئيس ويصرخ: هسه افتهمنا هو رئيس جمهورية لكن شيخصه بالاذاعة والتلفزيون!
وفي صباح الثلاثين من حزيران 1965 غادر عبدالكريم فرحان بغداد الى القاهرة مخلفا وراءه ازمة وزارية بعد ان تضامن معه خمسة وزراء وقدموا استقالاتهم في اول شرخ يضرب القوميين العرب في العراق وانقسموا بين مؤيد للوزير فرحان ومتعاطف مع موقفه، وبين داعم للرئيس عبدالسلام عارف وشاجب لتصرف وزير الارشاد.
اما الوزراء المستقيلون فهم: صبحي عبد الحميد وزير الداخلية وفؤاد الركابي وزير البلديات واديب الجادر وزير الصناعة وعزيز الحافظ وزير الاقتصاد وعبدالستار علي الحسين وزير النفط .