عبد الحسين مجيد سمار السوداني
بعد نَشر الحوار الذي أجراه معي الأستاذ شامل عبد القادر رئيس تحرير مجلة ألف باء في عددها الذي صدر بداية شهر كانون الثاني 2016. اتصل بي العديد من المعارف والأصدقاء معربين عن ارتياحهم لما جاء بالحوار. ولكنهم اجمعوا على أن هذا النقد أو الاعتراف بأخطاء مرحلة حكم البعث في العراق، جاء متأخرا كثيرا إذ كان المفروض أن يكون بعد انهيار سلطة الحزب بفترة قليلة، حيث لا يعقل أن تحكم حركة سياسية بلدا على مدى خمسة وثلاثين عاما ولم تعترف بأخطاء تلك الفترة التي تخللتها حروب دامية وحصارات قاسية في المجالات الاجتماعية والثقافية والعلمية، وإخفاقات على مستوى السياسة والاقتصاد. وفي حين اثنوا على مبادرتي التي وصفوها بالجرأة والصدق والصراحة، تمنوا علي أن اكتب شيئا عن مشاهداتي أو مسموعاتي عن الصور المؤلمة التي كان أبطالها بعض المسؤولين والمحيطين بصدام حسين. ونزولاً عند رغبتهم بدأت الكتابة تحت عنوان “حكايات من زمن البلاء السابق”. ومن المؤكد أن أكثرها بشاعة تلك التي حدثت خلال فترة الحصار. وقد استعين ببعض العبارات من اللهجة الشعبية الدارجة على رغم أنها قد تضعف النص أو تجعله ركيكا ولكنها الأمانة تقتضي أن يعزز موضوع الحدث أو الصورة ببعض تلك العبارات. وفي هذا المقال سأتناول أربع حكايات وقد اتبعها بأخرى في عدد قادم إن شاء الله.
1- في لقاء جمعني ببعض الأشخاص حين كنت في دمشق عام 2006 تحدث احدهم ويدعى (أبو سيف) وكان مدير الأمن في النجف الأشرف بعد حرب تحرير الكويت. قال: أبلغت الأجهزة الأمنية في محافظات الفرات الأوسط بالعمل لحث رؤساء العشائر على تسليم أبناء عشائرهم الذين هربوا من وحداتهم العسكرية أثناء المعارك ضد التحالف الدولي. بغية تسوية أوضاعهم بعد تأهيلهم لفترة قصيرة في معسكرات خاصة ومن ثم المباشرة بتسريحهم وفق الأصول. ومن أجل تنفيذ هذا التبليغ نفذنا حملة جبرية واسعة بمساعدة المحافظات والحزب. ونتج عن هذه الحملة تسليم عدة آلاف من شباب المحافظات المذكورة أعلاه. ثم أردف قائلا: كان ذلك في نهاية نيسان من عام 1991، وبعد عشرين يوميا تقريبا ابلغ المعنيون بالحضور في المكان المحدد وتم إركابهم في سيارات حمل كبيرة على شكل دفعات وفي أكثر من يوم برفقة عناصر من الأمن الخاص. ومرت أسابيع ولم يصلنا أي خبر عنهم ولم يعد أي منهم إلى أهله كي نستغل الفرصة ونسأله عن الباقين. عند ذاك كثرت الشكاوى وتكررت مراجعات رؤساء العشائر وأقارب ذوي العلاقة وساور القلق والشك قلوب أمهاتهم وزوجاتهم لذلك اضطررنا للتأكيد على مراجعنا حول الموضوع. وبعد أيام طلب إلينا تبليغ المراجعين بالحضور إلى مكان وسط تم تمديده مركزيا لسماع رأي الدولة عن الذي حصل. في الموعد المحدد حضر المدعو (روكان ارزوقي) وهو من أقارب صدام حسين والمسؤول عن ملف العشائر في ديوان الرئاسة، وكان بلباس مدني ويضع حول رقبته سلسلة غليظة من الذهب. وبعد تقديمه للحاضرين بدأ حديثه عن حب الوطن وواجب التضحية دفاعا عنه. ثم تحدث عن مساوئ جريمة الهروب من الخدمة العسكري. بعد ذلك قال بحدة وصلافة، إن أبناءكم الذي قيل أنهم سلموا نادمين لم يصلوا لمعسكرات التأهيل وقد وصلت السيارات فارغة، ويبدو أنهم نزلوا من السيارات وعادوا إلى أهلهم. ولم يعط فرصة للحاضرين للاستفسار أو النقاش ولما كثر العويل وساد الهرج على صوت احدهم صارخا “على الأقل دلونا على مكان دفنهم”. وذهب الصراخ أدراج الرياح بعد أن غادر المجرم (ممثل السيد الرئيس) متبخترا وهو يعرف جيدا أن الحاضرين ليسوا من السذاجة بحيث يصدقون روايته السخيفة. وذهبت تلك الآلاف من الشباب ضحية كذب الدولة وسياستها الرعناء الدموية، التي لم تبق من هؤلاء المغدورين حتى بقايا أجسادهم.
2- في أواسط نيسان من نفس العام 1991 كنت (الخافر) في مقر فرع ميسان وبعد مغيب الشمس بقليل سمعت حركة غير طبيعية في الساحة الخلفية وقرب المرأب فخرجت مسرعا وفوجئت بعناصر حمايات عسكرية تملأ المكان، ولمحت المدعو (كامل ياسين رشيد) عضو القيادة القطرية ونائب مسؤول المكتب العسكري وابن خالة صدام حسين لمحته وهو يترجل من إحدى السيارات الحديثة، فيما ترجل من سيارات أخرى مرافقوه من الضباط وآخرون بملابس مدنية، واتجهوا إلى دار ملاحقة للفرع، يبدو أنها أعدت لضيافتهم بدون علم قيادة الفرع والمحافظة. في هذه الأثناء دخلت للساحة باصات نقل ركاب (عسكرية) ونزلت منها مجاميع من الغجر نساء ورجال. وادخلوا إلى جناح الضيافة وبعد نصف ساعة تقريبا بدأت عملية نقل الأطعمة والمشروبات لهؤلاء وتبين أن هناك عناصر خاصة لأغراض الضيافة كانت قد سبقت الموكب لإعداد مستلزمات (الراحة) في نفس الوقت كانت تجري عملية تفتيش وفحص المكان وشملت بناية الفرع والحدائق المحيطة به وتوزيع نقاط الحراسة وأبلغ أعضاء الفرع والموجود من الموظفين وحرس المقر بالذهاب إلى بيوتهم. أما أنا فقد أبلغوني بعدم مغادرة غرفتي التي هي في جناح الضيافة أيضا. والذي عرفته من خلال استنطاق احد صغار الضباط المرافقين الذي اختار السرير الثاني في غرفتي للراحة أن عضو القيادة ومرافقيه قدموا من الديوانية إلى ميسان ضمن برنامج زيارات أمر به صدام حسين للوقوف على الأوضاع الأمنية والخدمية والاقتصادية في محافظات الوسط والجنوب وتقديم تقارير مفصلة حول الموضوع. وقد كانت المحافظة (المركز والأطراف) بأسوأ حال فكلها تعيش في ظلام دامس ما عدا مقر الفرع ودار المحافظ ومبنى المحافظة. والخدمات البلدية والصحية سيئة جدا والبنى التحتية مدمرة، والخوف والرعب يملأ نفوس المواطنين بعد المآسي التي مروا بها أثناء وبعد حرب تحرير الكويت. ولم أنم تلك الليلة بسبب حراجة الموقف والضجيج الذي ملأ الأرجاء وفي الساعة السابعة صباحا تحرك الوفد بمسؤوليه وغجره وكنت قد سألت نفس الضابط عن وجهتهم فقال: محافظة البصرة. راح الوفد ولم يطلع على شارع واحد، ولم يلتقِ بأي مسؤول حزبي أو إداري ومن المؤكد أن تقريرهم النهائي عن المحافظة سيتضمن التقييم التالي: الوضع الاقتصادي في المحافظة: جيد جدا. الوضع الخدمي والأمني ممتاز والعلاقة بين الحزب والدولة والجماهير ممتازة وبعد أن غادر الجميع كتبت في المكان المخصص لتثبيت أسماء الخافرين في سجل الخفارات. “لقد تناوب على الخفارة كافة الرفاق الغجر شكرا لزيارتكم”، ولكن سرعان ما مزقت الورقة ثم أحرقتها مخافة أن يطلع عليها احدهم وفيها ما يسيء إلى سمعة (رفاقنا الغجر).
3- في نهاية آذار عام 1991 أيضا كنت في ناحية على الشرقي جالسا في مكان المسؤول المعتاد وقد كان محترقا بالكامل بسبب الأحداث التي تلت حرب تحرير الكويت أو ما اصطلح على تسميتها (الانتفاضة الشعبانية) ولم يكن معي احد من (جماعتي) والذي يلتحق منهم يأتيني ملثما وبعد دقائق يغادرني ملثما. وعند المساء يتسرب الجميع فأبقى بمفردي بين الجدران السوداء والشبابيك المهشمة أواجه الرياح الباردة على أرضية مليئة بالرماد وشظايا الزجاج الصغيرة. وفي ظهيرة يوم 24/3/1991 رأيت مجاميع من البشر تركض فزعة باتجاه صحن الإمام، فرحت أركض معهم وبنفس الاتجاه، وقد ساورني إحساس بأن شيئا ما حصل في السوق أو قريبا منه أو أن هناك أمرا جللا حدث داخل الصحن، وحين وصلت الباب الرئيسي للصحن لاحظت أن الناس تتجاوزه باتجاه النهر. فتابعتهم إلى هناك وفوجئت بالأعداد الكبيرة من الرجال والنساء وهم يتشاجرون فوق وعلى أكتاف زورق بخاري وجنيبه مربوطة إليه. وتبين أنهم يتنافسون للاستحواذ على الوقود الموجود في الزورق لحاجتهم إليه في الطبخ والإضاءة. وللأمانة حين شاهدني هؤلاء كفوا عن الصراخ والشجار وبدؤوا يتفرقون إلا امرأة عجوز أبت الانصراف وجاءتني باكية وهي تقول: (يمه فدوه أريدلي اوكَيد) وتعني وقود فجمعت لها ما تيسر وراحت تولول ولا أعرف ماذا تقول. وبعد انفضاض الناس وجدت شيخا يجلس على أكوام من الرمل داخل أجنيبه: فسألته عن حاله وهويته وسر وجوده هنا ومنذ متى؟
فقال: أنا سائق هذا الزورق ولي ملكيته هو والجنيبه. وأنا من ضمن مجموعة مكلفة بنقل الرمل الخام الخالص من شط العرب إلى مزرعة تعود إلى (حسين كامل) وحتى الآن أوصل كل واحد منا حملين برغم الحرب والقصف. والآن نحن بعيدون عن أهلنا ولا نعرف ماذا حل بهم في البصرة، وها قد مضى علينا أكثر من شهرين في هذا العمل. فسألته عن الجهة التي تفتح لهم النواظم والجسور بغية عبور الجنائب. فقال: هناك أناس خاصون ينتظروننا لهذا الغرض. ثم سألته عمن يجمع الرمل ويحمله. فقال: أيضا هناك أناس وآليات تابعة للدولة تقوم بهذه المهمة. بعد ذلك قال: أنا هنا منذ أن (احترقت المدينة) ولم الحق بأصحابي لعدم توفر الوقود الكافي للوصول إلى بغداد وما تبقى منه ها أنت رأيت بعينك ماذا حل به، ثم سألني: (عمي انته ضابط أمن، ضابط شرطة؟) فقلت له لا هذا ولا ذاك. عندها يبدو انه عرف هويتي فعاد يسألني: (عمي انته المسؤول؟) فقلت له نعم. حينذاك قال لي متوسلا: “عمي أنا دخيل الله ودخيلك. خاف يعدمني حسين كامل. أريدك تشهدلي انه ماعدي ذنب” فوعدته خيرا وهو لا يعلم إني أنا المسؤول، ارتجف هلعا حين سمع اسم حسين كامل. لقد كانت أوقاتا عصيبة تجرع خلالها العراقيون مرارة العيش في ظل الخوف والإرهاب كما عاشوا الحرمان وضيق ذات اليد، بينما ينعم من لا يستحقون الحياة بأفضل المباهج على حساب بؤس وشقاء المواطنين وهم في بلد يعرفون خيراته ولكنهم لم يحصلوا منها على شيء.
4-في ناحية العدل التابعة لقضاء المجر الكبير وفي أوائل عام 1988 أحرقت دار احد الحزبين وهي من القصب والبردي، فوصل الخبر إلى أمين سر الفرع وكان آنذاك المجرم (مولود جابر الدوري) بأن الحريق كان بفعل إجرامي نفذه المخربون (المعارضة) انتقاما من (الرفيق) صاحب الدار. وفي الحال اجتمع بقيادة الفرع وأوعز بتهيئة سرايا متعددة من الجيش الشعبي مجهزة بكل أنواع الأسلحة ثم نسق مع قيادة الفيلق الرابع لتأمين الطائرات المروحية اللازمة للهجوم وإسناد المقاتلين أثناء حركتهم داخل الأهوار. وفي اليوم التالي كانت الآليات تملأ شوارع الناحية وأطرافها والطريق الرابط بين ناحيتي العدل والسلام فيما المقاتلون ينتظرون الإيعاز للمباشرة بالواجب، وفي حدود الساعة العاشرة صباحا وقبل دخول المقاتلين للأهوار، بدأت الطائرات تقصف القرى والبيوت المتناثرة في جميع المناطق القريبة. وبما أني كنت قريبا من مسؤول الفرع بصفتي مدير إدارته، فقد سمعت الحوار بينه وبين الطيار عبر الجهاز الذي بيده قال الطيار تريثوا لا تدعوا المقاتلين ينزلون الآن للهور لوجود أعداد كبيرة من (المخربين) بين القصب والبردي وريثما نعالجهم. ويبدو انه اعتبر كل شخص موجود في الهور هو مخرب سواء كان ذكرا أم أنثى. لذلك كانت نتائج القصف مروعة وبعد نصف ساعة تقريبا، اتصل نفس الطيار وقال: يبدو أن هناك أعدادا من القتلى والجرحى وبعد أن حدد مكانهم طلب إرسال المقاتلين لجمعهم وإخلائهم إلى المقر المسيطر. وعند الساعة الثالثة عصرا كانت هناك عشرات الجثث ملقاة على الطريق العام وتبين أن بعضهم كانوا جنودا مجازين ومن بين القتلى أشقاء مضافا لهؤلاء القي القبض على خمسة وخمسين من الشباب اليافعين وكبار السن والأطفال وجيء بهم معصوبي الأعين ومكتوفي الأيدي. في ذات الوقت كان أمين سر الفرع يزمجر بهستيريا: أحصوا هؤلاء الأسرى المجرمين ودونوا المعلومات عنهم وسلموهم للفيلق هذا المساء حتما. وفي اليوم التالي علمنا أن الفيلق أطلق سراحهم جميعا بعد أن تم التحقق من سلامة مواقفهم وعدم وجود مؤشر سلبي عن أي منهم. وقد كظمت عوائل القتلى والجرحى غيظها آنذاك خوفا من العواقب ولكنها ادخرته لينفجر نارا ودمار، حالما تهاوت مؤسسات الدولة وانهارت مقاومة الحزب مع وصول طلائع دبابات المحتلين ومجاميع المعارضين إلى أطراف المدن.