بغداد – الراصد 24 ..
عندما اغتيل المرجع الشيعي العراقي البارز السيد محمد محمد صادق الصدر ونجلاه مؤمل ومصطفى على ايدي عملاء سريين تابعين لنظام صدام حسين في 9 شباط 1999 لم يكن للابن الاوسط السيد مقتدى الصدر شأن كبير في الساحة الدينية، فالشاب ابن السادسة والعشرين آنذاك نأى بنفسه عن السياسة واكتفى بدراسة الدين ليكون مؤهلا في يوم ما لتزعم الحالة الثورية ولتصدر الحوزة «الناطقة» في النجف المركز الروحي لشيعة العالم.
فمقتدى الصدر الذي ولد في 12 آب 1973 والثاني في ترتيب اولاد محمد الصدر الاربعة، ينتمي الى عائلة دينية عريقة من مدينة الكاظمية في بغداد خرج منها رجال دين شيعة كبار من بينهم المرجع الراحل محمد باقر الصدر الذي اعدمه النظام السابق في 1980 ، فوالده (محمد الصدر) كان من ابرز معارضي صدام حسين وحكم حزب البعث العربي الاشتراكي رغم اتهامات خصومه الشيعة بالتعاون مع النظام العراقي، كما عرف بعلمه وبساطته وقربه من الاوساط الشعبية وبنشاطه العلني المناهض من خلال منبر صلاة الجمعة مما جعله مصدر الهام روحي لكثير من الفقراء والمهمشين الشيعة الذين تحولوا الى ذخيرة يعتمد عليها نجله مقتدى في مسيرته «الثورية» في عراق ما بعد صدام حسين.
وبينما كانت القوات الاميركية تبسط سيطرتها على العراق بعد اسقاط نظام صدام حسين في نيسان 2003 ، كسر الاف المهمشين والفقراء من الضواحي الشرقية والاحياء الفقيرة في بغداد وعدة مدن عراقية، حاجز الصمت والخوف ليطلقوا تيارا جديدا حمل اسم «التيار الصدري»، هز الساحة الشيعية برمتها التي اعتادت لعقود طويلة على مرجعيات واحزاب سياسية تقليدية، ليكون التيار الذي يمثل» الحوزة الناطقة» على عكس ما يسمونه بـ «الحوزة الصامتة» في النجف، لاعبا جديدا مؤثرا أربك حسابات كبار اللاعبين بالمشهد السياسي والاجتماعي والديني في العراق.
ويمثل مقتدى الصدر الذي يكنيه انصاره بـ «ابو هاشم» مع انه ليس لديه اولاد من زوجته ابنة المرجع الراحل محمد باقر الصدر، قائدا مهما وزعيما لشريحة مهمة من المجتمع الشيعي وثوريا براغماتيا في اغلب محطاته، لكنه حتى الان لم يصل الى مرحلة الاجتهاد التي تخوله التصدي للمرجعية الشيعية رغم دراسته بعد الاحتلال الاميركي في مدينة قم الايرانية سنوات وحمله للقب «حجة الاسلام والمسلمين» وانما يرجع في التقليد إلى آية الله كاظم الحائري المقيم في ايران.
ومع الفوضى التي سادت العراق بعد الغزو الاميركي كانت حادثة اغتيال رجل الدين الشيعي عبد المجيد الخوئي رئيس مؤسسة الخوئي الخيرية في لندن ونجل المرجع الشيعي الاعلى الراحل اية الله السيد ابو القاسم الخوئي داخل مرقد الإمام علي بن ابي طالب في النجف، محطة مهمة ونقطة تحول في حياة السيد مقتدى الصدر جرت بعدها مواجهات كثيرة بعدما اتهم بالحادث وصدر ضده امر اعتقال، لكن الصدر أنكر تورطه في عملية الاغتيال التي ما زالت تمثل ورقة ابتزاز لدى خصومه تظهر بين الحين والاخر ضمن تصفية الحسابات السياسية بين الافرقاء العراقيين.
وكانت علاقة مقتدى الصدر مع الاميركيين وما زالت سيئة ، فخاض مع القوات الاميركية في عام 2004 اول مواجهة شرسة عندما اصدر الحاكم المدني الاميركي بول بريمر قرارا باغلاق صحيفة «الحوزة» التابعة للتيار الصدري لمدة شهرين مما ادى الى احتجاجات اوقعت قتلى وجرحى في صفوف الصدريين لتكون تلك الحادثة بداية مرحلة مفصلية جديدة في الوسط الشيعي تمثلت بقتال القوات الاميركية ليعقبها بعد اشهر قليلة اثر محاولة القوات الاميركية القبض على الصدر على خلفية اغتيال الخوئي بداية لمعارك دامية بين القوات الاميركية وميليشيا «جيش المهدي» التي شكلها لاحقا واستمرت أكثر من شهرين كاملين انتهت بتراجعه عن القتال اثر وساطة المرجع الشيعي الاعلى آية الله السيد علي السيستاني الذي عاد الى النجف قادما من لندن بعد مغادرته المدينة عقب اشتداد المعارك بين الطرفين.
ومثل عام 2007 محطة مهمة جديدة في مسيرة الصدريين. فبعد اشتباكات دموية بين جيش المهدي وقوات الامن العراقية وفيلق بدر خلال مناسبة دينية في كربلاء اوقعت ما لا يقل عن 52 عراقيا، أصدر السيد مقتدى الصدر قرارا بتجميد انشطة «جيش المهدي» لاعادة تنظيمه ولافساح المجال للحكومة العراقية لملاحقة من اسماهم بـ «المندسين»، لكن الصدر الذي غادر الى ايران ، بقي على موقفه في مواجهة القوات الاميركية فأقدم على تأسيس قوة خاصة اطلق عليها اسم «لواء اليوم الموعود« الذي قام بعمليات عسكرية ضد القوات الأميركية حتى الانسحاب في عام 2011.
ورغم اتجاه الصدر لمقاتلة الاميركيين، الا ان الجناح المسلح التابع له «جيش المهدي» اتهم وفقا لتقارير محلية ودولية وشهود بـ «جرائم» سرقة واعمال قتل وعنف وخطف ضد العراقيين السنة وحتى من الشيعة المخالفين له فضلا عن استهداف خبراء اجانب، لكن الصدريين يحملون من يسمونهم بـ «المنشقين» مسؤولية ذلك. فالتيار الصدري الواسع الانتشار شهد على مدى سنوات انشقاقات مهمة يعتقد ان ايران تقف خلفها لاضعاف التيار، قام بها مساعدون بارزون لمقتدى الصدر اختلفوا معه بالرؤية وآلية التعامل مع الاحداث كان ابرزهم الشيخ قيس الخزعلي الذي أسس «المجاميع الخاصة» وتم اعتقاله لاحقا من قبل الاميركيين مع القيادي في «حزب الله« اللبناني علي موسى دقوق الذي اشرف على تدريب تلك المجاميع التي تحولت فيما بعد الى «عصائب اهل الحق» والمتهمة بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين في العراق وسوريا، كما انشق عنه الشيخ اكرم الكعبي الذي اسس ميليشيا «النجباء» والشيخ عدنان الشحماني الذي شكل كتائب «الرساليون» واغلبها كانت مؤيدة للمرجع الراحل محمد صادق الصدر لكنها تحولت الى تقليد المرشد الايراني علي خامنئي بعدما خضعت تلك الفصائل لاشراف الحرس الثوري الايراني وتمويله.
ويسير زعيم التيار الصدري في علاقته بايران وفقا لمبدأ «شعرة معاوية« حيث تتميز علاقته بدوائر صنع القرار في طهران او المرجعيات في قم وما تمثلانه من ثقل كبير في الواقع الشيعي بالقرب تارة والتوتر تارة اخرى، فالصدر الذي يحمل توجها «عروبيا» حافظ على نوع من الاستقلالية في قراره عن النفوذ الايراني المؤثر، فكثيرا ما تملص عن ارادة كبار المسؤولين الايرانيين ازاء احداث معينة، لكنه يستجيب لرغباتهم في احيان اخرى. لكن حركة مقتدى الصدر على العموم لا تخفي عدم ايمانها بـ «ولاية الفقيه» وفقا للنموذج الايراني وتميل الى تطبيق نموذج اخر خاص بها اذ يقول الصدر ان»ايران دولة صديقة لا نتدخل بشؤونها ولا تتدخل بشؤوننا«.
ويفضل السيد الصدر في ظل الصراع المرجعي الذي دار على مدى سنوات بين مرجعية والده الراحل بمواجهة المرشد الايراني السيد علي خامنئي، المحافظة على علاقات جيدة مع الجميع كما يحاول مد علاقات مع الدول العربية وهو ما يدفع طهران الى عدم قطع العلاقة مع الصدريين حتى لا يكونوا في المعسكر المقابل للمعسكر الايراني رغم توتر العلاقات بين الصدر وقائد قوة القدس في الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني التي طفت الى السطح اخيرا اثر اتهامه المسؤول العسكري الايراني بتهميش دور «سرايا السلام» التي شكلها التيار الصدري بعد دخول تنظيم «داعش« الى العراق والتي لا تخضع لاشراف سليماني او ابو مهدي المهندس ذراعه في مؤسسة الحشد الشعبي التي تضم فصائل شيعية مسلحة تمول وتدعم عسكريا من ايران.
ويركز الصدر، كما يرى مراقبون، مستقبلا على الهيمنة النهائية للمؤسسة الدينية العراقية اذ ما يزال يامل أن يؤسس حكم رجال الدين في جنوب ووسط العراق مستعيرا اياه من نموذج «ولاية الفقيه» ولكن مع رجل دين عراقي يفترض ان يكون هو نفسه على قمة الهيكل لاسيما ان في مرحلة ما ستنتهي فترة آية الله علي السيستاني رجل الدين البارز في العراق وربما سيسعى الصدر الى عرقلة اختيار خليفة للسيستاني من المدرسة التقليدية. وفي ذلك السيناريو، ثمة احتمال بأن تتعارض المصالح القومية وتلك الخاصة بالسلالة العائلية لمقتدى الصدر مع طموحات طهران للسيطرة على الحوزة العلمية ومن خلالها السيطرة على الشيعة في العراق.
وخلال السنوات الخمسة الاخيرة وخصوصا بعد انسحاب القوات الاميركية وبعد عودته من منفاه الاختياري في من ايران والذي دام 3 سنوات ارتبطت هذه المرحلة بانعطافات فكرية وسياسية تخللها مد جسور للتعاون مع الكتل السياسية العراقية المتنوعة لمحو الصورة النمطية التي ارتبطت بالصدريين خلال السنوات الأخيرة ونظرة الريبة حيال مواقفهم ودورهم في الحرب الاهلية التي شهدها العراق وتقديم نموذج جديد يؤمن بالحوار ويبتعد عن الانقسامات المذهبية التي يرى انها اضعفت العراق.
وتجسدت الانتقالات السياسية للصدريين بتمرد التيار علنا عن الاجماع الشيعي ورفضه الرضوخ لاوامر ايرانية بعدم سحب الثقة عن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي اثناء توليه السلطة في 2012 ، كما دعم الصدر شخصيا مطالب المحتجين من العرب السنة اثناء الاحتجاجات في 2013، فضلا عن رفضه اي تهميش للسنة واقصائهم عن المشهد السياسي، وارتبط بعلاقات وثيقة مع السياسيين السنة والاكراد مما مهد لتشكيل جبهة واسعة نجحت فيما بعد في اقصاء المالكي من رئاسة الحكومة لولاية ثالثة، لكن بجميع الاحوال يتميز التيار الصدري بالتعامل الواقعي مع الاحداث والقدرة على التراجع عن الخيارات السياسية في حال رأى انها لن تحقق الاهداف التي يأملها.
وفي المرحلة الراهنة التي شهدت خلال الاشهر الثمانية المنصرمة احتجاجات شعبية واسعة قام بها التيار المدني والليبرالييون للمطالبة باجراء اصلاحات شاملة في الجوانب السياسية والامنية والاقتصادية ومكافحة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة العراقية، لم يظهر رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي عزما واضحا في تلبية المطالب الشعبية او حتى تنفيذ تعهداته بالاصلاح وهو ما دفع بالتيار الصدري الى مباغتة شركائه السياسيين بتقديم ورقة اصلاحات شاملة مع امهال العبادي 45 يوما لتقديم برنامج حكومي يشمل تشكيل حكومة تكنوقراط.
وبينما انشغلت الكتل السياسية بورقة الاصلاح الصدرية باغت التيار الصدري وزعيمه السيد مقتدى الصدر الجميع بالنزول شخصيا وسط مئات الالاف من انصاره في ساحة التحرير (وسط بغداد) للمطالبة بالاصلاح الشامل ليمضي قدماً بالمواجهة نحو الاعتصام امام بوابات المنطقة الخضراء التي تضم رئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان وسفارات اجنبية مهددا باقتحامها في حال عدم تطبيق الاصلاحات المنتظرة مع ان التيار الصدري يترك دائما النهايات سائبة كعادته لتامين اي خطوة للتراجع وفقا للتفسير البراغماتي للسياسة التي يعتمدها.
وأظهر التيار الصدري قدرة لافتة في التطور المستمر من مرحلة الى اخرى وخصوصا تحالفه مع التيار المدني والعلماني. فالصدر يريد ان يبعد عن تياره الواسع شبهة الاسلام السياسي من خلال التوافق مع الحركة المدنية، مع ان الشارع العراقي في بعض مفاصله ينظر بتحفظ بشأن ما يدور كون التيار الصدري هو من اهم مكونات الحكومة الحالية.
وشكل ظهور التيار الصدري بهذا الحجم وهذه القوة نقلة في المشهد العراقي خصوصا ان مستوى الاحتجاجات تصاعدت في ظل ضعف العملية السياسية وتردي الحالة الامنية والاقتصادية التي انعكست على مختلف شرائح المجتمع وفي مقدمها الفقراء الذين يمثلون القاعدة الاساسية للتيار، مما عزز موقفه داخل البيت الشيعي وحتى داخل المكونات الاجتماعية والسياسية الاخرى، الى جانب ان التيار الصدري تيار طموح يستمد ارثه من زعيمه الروحي الراحل محمد صادق الصدر الذي لم يخش المطالبة بالاصلاح في اشد الفترات قسوة ابان عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي كانت آخر كلمة سمعها في حياته اثناء وقوفه على منصة الاعدام في 2007 هي اسم «مقتدى» الذي يمنح اتباعه القدرة على المواصلة او التراجع التكتيكي من اجل قطف الثمار لاحقا.