عبدالكريم كاظم
إنها لمفارقة عجيبة حين تمتلئ سنوات عمر الشاعر بضجيج الحرب وصخب الموت ولوعة التجارب، لكنه الشعر بين حدّي التناقض يعلن حضوره الدائم وينطوي على التمجيد حين تصاب القصيدة بالهلع والحياة بالعطب، الحياة والقصيدة صنوان، هكذا أقول دائماً.
لا يشبه الشاعر نصيف الناصري في حياته إلا نفسه، إنه صوت شعره ونسيج مفرداته، يجمع قلق الشاعر وتجليات النص إلى عبثية الصعلوك ومفارقات الصعلكة، يقرن بين مرارة الشعر وجمال المعنى.
سليل خط بوهيمي يبدأ من قصائد حسين مردان العارية إلى سعادة كزار حنتوش العالمية وابتكارات عبدالامير الحصري التموزية وشموسها وصولاً إلى جان دمو وأسماله، ولا ننسى المرور بجنائن وطيور الشاعر عقيل علي المتوارية، إنها شجرة الشعر لكن، هناك مغايرة تكمن في أن الناصري، نصيف، بمقدار ما انتمى إلى هذه الشجرة وحمل بعض من ملامحها ظل يركض في العراء الروحي وحيداً محتفظاً بأسلوب مختلف لما سبق لتلك الشجرة أن تميزت به شعرياً، قد يبدو انفصال واتصال في آن، وقد لا يقوى كثيرون على مجاراة حياة كالتي عاشها الشاعر القادم من الجنوب العراقي يجيد صناعة وإشعال الحرائق بمهارة، تتجلى في أنه يعري نصه جملة جملة وحياته خيبة خيبة وحماقاته واحدة واحدة وسنواته جمرة جمرة، بات من الصعب التكهن، حين يكتب عن الحرب والحياة والجمال والموت، أي الحوادث هو الحقيقي وأيها المتخيل، من المؤكد أن هذا الأمر هو موضوع شعري بحيث لا تبدو الكتابة عن الحرب والتجارب والحب والموت والكون والحرية والتهميش سهلة كالكلام المرسل، فهو لا يحتاج سوى احضار الذاكرة وتواريخ التشرد وبعض من محطات العمر، إنها لزوميات الناصري الضائعة في عرض الحقائق بصدقية متناهية وإمتاع حد الانبطاح على الأرض من الضحك.
جُمله الشعرية تشبه مرارة خيباته، فضاؤه مفرط القساوة، أما التجول في وهاد نصوصه الشعرية مغامرة محفوفة المخاطر، فضلاً عن إنها حقلاً للألغام اللفظية، من البساطة أن تأخذ منه ما تستطيع أنت أن تأخذه لا ما يمكنه هو أن يعطي، لا يرد صديقاً مثلما لا يرد كأساً مترعة بالمحبة، يعطي طيبة بمقدار ما هنالك من يستحق أو لا يستحق، يوزعها كالقصائد، لم يتمكن الشاعر من مغادرة جلد الصعلوك ولا الصعلوك من جلد الشاعر.
ثمة جرم مشهود في كل قصيدة لا يحتاج إلى جهد كبير لكي تقبض عليه متلبساً، أعني الجرم الشعري الذي يبدأ من العنوان ولا ينتهي بالمتن وصولاً إلى الحاشية، أحياناً يكتظ بالقصيدة، أو تكتظ به، إنه لا يبوح فقط لكنه يفصح حد اللعنة.
لم أعرف شاعراً واحداً تجرأ على تعرية نفسه تماماً في كتاباته، أو يومياته وذكرياته مثلما فعل ويفعل الناصري، يتنفس الخمر ويبثه شعراً، محترف دعابات، مألوفاً حد الضجر. إنه نثري وتنبع فداحته النثرية من مشاكساته اللفظية، يبتعد عنها وبمقدار ما يبتعد تترسخ الهوة بينه وبين مألوفية دعاباته. أحياناً أسأل: هذا الشاعر المذعور من سجله العسكري المتخم بهروباته المتكررة من دموية الحرب وتشرده الأزلي، لماذا لم يدركه العثار؟ هذا الشاعر قدماه في السويد ورأسه المدجج بالخراب في فضاء العراق، يلتقط المعنى، ويبكي أيامه حتى تعصره القصيدة حد الذوبان، إنه صانع حرائق ومبدد قناعات، هكذا إذن تُمجده القصيدة التي يحلق بها.
لنُمجد قصيدته، بعبارة أخرى ما يمكن الجزم به هو ضرورة التمجيد لتلك الحالتين: هلع القصيدة وهروب الشاعر لكن، من يُقيس القصيدة؟ من يُقيس المقادير اللغوية المغايرة إذا أضرم الناصري النار بالكلمات؟ قبل أن تخفت النار سيستعين بالمتنبي وسيصرخ، ربما صرخته الأخيرة: (يا ساقييَّ أخمرٌ في كؤوسكما أم في كؤوسكما هم وتسهيـد) هكذا هو نصيف الناصري، يكتب عن حياته كأن الحياة بيته، وليس ثمة تخوم بين حياة الشاعر في نصه وبين المعنى.