بغداد – الراصد 24 ..
عندما يذكر تاريخ الصحافة تَقفز الى الذاكرة أسماء معدودة على أصابع اليد لعل نوري ثابت (حبزبوز) واحد من أبرزها برغم ما تزخر به الصحافة العراقية من هذا اللون في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين مما خلفه لنا كناس الشوارع – ميخائيل تيسي – وعلوان ابو شرارة – موسى الشابندر – وابو حمد – عبدالقادر المميز – وخلف شوقي الداوودي – عراق شلون يسويك رقي – اما اذا كنت ممن يعنى بالفلكلور العراقي والبغدادي فان جريدة (حبزبوز) تظل الينبوع الذي يفيض عليك بالكثير والكثير برغم معاصرتها الملا عبود الكرخي ولنتاجه الذي تناثر بين دواوينه وصحفه التي اصدرها ومنها (الكرخ). وصارع داء السل الوبيل ثماني سنوات ظل طولها ينزف دما ويسعل فلم ينل ذلك من حيويته ونشاطه وظلت (حبزبوز) اكثر من سبع سنوات تبعث في قرائها المرح والبهجة والسخرية والنقمة برغم انها كانت تحصد عمر كاتبها بكل قسوة. لم يكن نوري ثابت بالرجل الذي مر بحركة المجتمع العراقي في العشرينيات والثلاثينيات مروراً سريعا.. لقد مر به وترك على وجهه اكثر من بصمة.
حياة نوري ثابت
ولد نوري ثابت في السليمانية عام 1898 في الأرجح لاب عربي من محلة (بني سعيد – شارع الكفاح) كان ضابطاً في الجيش العثماني برتبة (عقيد) نشأ بها وتعلم اللغة الكردية قبل العربية فيها ثم عاد ابوه الى بغداد فادخله المدرسة الرشدية ثم الاعدادية الحربية التي تؤهله لحمل رتبة (ملازم ثان) واعلنت الحرب الاولى يوم كان نوري ثابت في الصف المنتهي من الاعدادية الحربية فمنح رتبة ملازم ثان قبل تخرجه وسيق الى ميدان القتال واسهم في الحرب بشكل فعلي فجرح فيها ثلاث مرات وظل يحمل رصاصة في يده اليمنى حتى عام 1924 عندما اخرجت بجراحة اجريت له في بغداد ويروي الاستاذ مصطفى علي ان هذه الرصاصة اثرت في يده بحيث انها اضطرته الى ان يمسك القلم بشكل غير طبيعي عند الكتابة. وما ان وضعت الحرب اوزارها وانسلخت الاقطار التي اجبرت على الانضواء تحت لواء الامبراطورية العثمانية بحد السيف حتى وجد نوري ثابت نفسه يتوجه الى وطنه ثانية ليضع امكاناته في خدمة تطويره.
العودة بعد الحرب
عاد نوري ثابت الى بغداد فاشتغل اولا مدرسا في المدرسة الجعفرية ثم التفيض (وكانتا أهليتين) بعدها التحق بوزارة المعارف فعين مدرساً في دار المعلمين الاولية حيث ظهرت مواهبه فيها أول مرة فلقد تعهد الحركة الكشفية في دار المعلمين وعندما وجد ان الايعازات وتفاصيل التدريب ما زالت باللغة الكردية اضطلع بترجمتها الى العربية. ويروي الاستاذ عبدالمجيد حسن (وهو واحد من طلابه وقد زامله في التدريس فيما بعد) ان ما يتداول من ايعازات (يس… يم.. سر.. الى اليمين در… الى اليسار در… وهكذا) الى يومنا هذا كان بفضل ما ترجمه نوري ثابت من التركية الى العربية. وكانت الاناشيد التي تنشد في الدار وبعض مدارس بغداد في اوائل العشرينيات باللغة التركية ويوم تنادى الشعراء لنظم الاناشيد العربية – والرصافي احدهم انبرى نوري ثابت لتلحين بعضها مستفيداً من المامه الكبير بالموسيقى ومن معرفته العزف على العود والكمان ولقد ظلت مدارس بغداد تردد نشيد:
بالقنا والقضب
شيد مجد العرب
ولم يقصر نوري ثابت نشاطه على هذين الامرين بل تعداهما الى كتابة المسرحيات الساخرة ثم المشاركة في التمثيل بطلا… على ان مهمات الاخراج والماكياج والديكور – على بساطتها – كانت بعهدته ايضا: ولا اشك في ان النقدات اللاذعة التي كان يوجهها نوري ثابت الى الحكم من خلال مسرحياته هي التي دعت النظام وقتذاك الى ان يضعها في الصف المعادي له… وهذا التشخيص انتهى به الى النقل من الدار الى الاعدادية المركزية مدرسا فمعاونا ثم مبعدا الى كركوك كمدير متوسطة فيها.. لقد كان نوري ثابت نقطة ضوء.. مجموعة مواهب…. معينا يتدفق حيوية ونشاطا وابداعا.. طاقات هائلة لا تعرف الكلل والملل.
حكاية داء السل
وفي كركوك كانت الطامة الكبرى التحق نوري ثابت بوظيفته كمدير متوسطة كركوك وكان احد زملائه من المدرسين مصابا بمرض السل وكان يزوره، فلفت نظره (عود) كان معلقا في غرفة زميله المريض وكان نوري ثابت عازفا فسال عما اذا كان ممن يضرب عليه فعلم انها زوجه فكان ان توطدت العلاقة بينه وبين زوج زميله المريض، ومات الاستاذ المريض بدائه. يقول السيد مصطفى طبرة ابن عم زوجه الثانية وواحد من الرسامين الكاريكاتيريين لجريدة حبزبوز.. يقول ان الاستاذ المريض ابدى رغبة في ان يتزوج نوري بزوجه ان وافاه الاجل وبرغم علمه بان الارملة الحسناء هي الاخرى كانت مصابة بالسل الا ان جمالها الفائق اغرى نوري ثابت بالزواج منها وبعد اشهر قليلة من زواجه بها بدت اعراض المرض فكان على حد قوله (يد تمسك الكاس واخرى تمسك السيكارة) وانتهزت السلطة اللغط الذي دار حول زواجه من الارملة الحسناء فكان ان فصل من وظيفته عام 1931.
حكاية الذيل
عام 1930 وعند مجيء نوري السعيد الى الحكم شعرت السلطة وقتذاك ان الحركة الوطنية اخذت تنشط بشكل اصبحت تشكل نوعا من الخطر ان ترك المجال لها لان تعمل وتنشر وعيها ولهذا اخذت تخطط من اجل كم الافواه ومن اجل ان تكسب شيئا من الشرعية على تصرفاتها هذه اخذت تسن بعض المراسيم الجائرة ومنها (الذيل) والذيل هذا هو ذيل قانون انضباط موظفي الدولة الذي صدر عام 1931 فكان ضحية هذا (الذيل) الكثير من الموظفين الذين الصقت بهم شتى التهم من اجل ابعادهم عن الوظائف كممارسة من ممارسات الضغط عليهم لصرفهم عن السياسة وكل من فصل بهذا القانون كان يقال عنه (ضربه الذيل). يروي الاستاذ مصطفى علي يقول: كنا في رحلة – وادي المرائش – انا وحبزبوز وشكري محمود الحمداني فجاء من اخبرنا بفصل حبزبوز فتوقعناه سيستقبل الفصل بشيء من الحزن او الالم الا انه رفع قدحه وطلب منا ان نرفع اقداحنا لنشرب نخب (الذيل) وفرح عجيب يغمره بحيث انه طلب من المصورين ان يصورونا، فكان ان نشر هذه الصورة في واحد من اعداد السنة الاولى لجريدة حبزبوز ونشرها تحت عنوان (هكذا استقبلنا الذيل). ان ما نشره نوري ثابت في جريدة الكرخ (مذكرات خجة خان) وما نشره في جريدة البلاد (هزل وتفكهة) هو ما دعا السلطة لفصله فاتخذت حكاية زواجه ذريعة علما بان زواجه هذا طبيعي ومشروع. ويقول الاستاذ مصطفى علي اني سألته عن سر فرحه بهذا الفصل فأجاب الى متى (خجة خان… جدوع ابن دوخية… خادمكم المعلوم) اريد ان اطلع للناس على حقيقتي.. اكتب واعري السلطة بكل ما أوتيت من قدرة وشجاعة.
جريدة حبزبوز
ولا اشك في انه كان قد خطط لاصدار جريدته حبزيوز اثناء ما كان موظفا وانه كان يتمنى الفصل ليتاح له تنفيذ رغبته وعاد الى بغداد ليعد العدة لاصدار جريدة الا ان خصومه تصدوا له لانهم يعرفون جرأة نوري ثابت وقدرته على تعريتهم وتعرية الحكم الذي ينصرونه وكانت ثمة علاقة تربط نوري ثابت بفائق شاكر (امين العاصمة يومذاك) وكان صديقا حميما له فتوسط الدكتور فائق لدى السلطة فمنحته امتيازا لاصدار جريدة ويبدو ان السلطة منحته هذا الامتياز بعد ان اخذت منه المواثيق على ان تكون صحيفة مستقلة لا تنتمي لاي حزب من الاحزاب المتصارعة وقتذاك. صدر العدد (الاول) من جريدته (حبزبوز) وفيها يقول: ((ان هذه الصحيفة فكاهية ادبية فنية بحته على طول لا علاقة لها توبة استغفر الله العظيم بالسياسة والاحزاب مطلقا. تختلف الظنون على مبدئي وتحوم الشكوك حول نزعتي لذا اردت ان ازيح الستار واقدم نفسي برزانة الى القراء. يراني البعض كثير الاتصال باشخاص الوزارة الحاليين معجبا برئيسهم الشاب فيظنني عهدي (منسوب الى حزب العهد الذي يرأسه ياسين الهاشمي). وفي الحقيقة انني اقسم بقضبان الحديد في البالكون المعهود (كان اقطاب حزب العهد يلتقون في عيادة الدكتور فائق شاكر ويتخذون من شرفته – البالكون – مكانا لهم) على انني لست ذاك. ويراني البعض اكتب في جريدة الاخاء الوطني وشديد الاعجاب بادمغة الاخائيين فيظنني اخائيا (منسوب الى حزب الاخاء الذي يرأسه ياسين الهاشمي) وانا اقسم لكم بالبيان الهاشمي (نسبة الى ياسين الهاشمي) الرفيع وبتربة الكيلاني (ويعني رشيد عالي الكيلاني معتمد حزب الاخاء) المقدسة ينصب من هذه الزيارات على انني لست هذا. ويذهب البعض مذهبا اخر فيظنني تقدميا (منسوب الى حزب التقديم الذي يراسه عبد المحسن السعدون) لصلة قرابة تجمعني مع بعض رجال هذا الحزب (ويعني عبد العزيز القصاب زوج اخته الذي كان واحدا من اقطاب حزب التقدم) فانا اقسم لكم (بالمسناية مال) مسناة خضر الياس (مشيرا الى مسناة) دار يوسف السويدي حيث يلتقي اعضاء حزب التقدم واقسم لكم بمسبحة معالي القصاب (يعني عبد العزيز) على انني لست كذلك. ويراني البعض اتظاهر بالوطنية المتطرفة وادغدغ احيانا محلة الكريات (حيث تقع السفارة البريطانية) فيظنني من الحزب الوطني فانا اقسم لكم بجبة معالي جعفر ابو التمن واقبل الايادي البعضة لكل من محمود رامز والاخ البدري (وكلاهما من اقطاب الحزب الوطني) فاقول (هو منهم). ويذهب فريق اخر مذهبا بعيدا نحو الماضي فيظنني من الحزب الحر العراقي المحروم والكل يعلم انني ما ضربت (لكمة) في الترجمانية (حيث بستان عبدالرحمن النقيب رئيس الحزب الحر (ولا تناولت طعام الافطار في ليالي رمضان في الدركاه (دركاه ال الكيلاني). اذن لم يبق الا شيء واحد وهو انني لا الى هؤلاء اي الاحزاب…….. يعني (حزب سز) وهنا اقسم لكم وهو القسم الاخير بحياة الشيخ علي (واظنه من اعوان الجواهري في واحدة من صحفه) على انني لست كذلك. اذن من انا؟ وما نزعتي؟ انا حبزبوز وحبزبوز فقط خادم الجميع وساع وراء تحسين صحيفتي التي ستكون فكاهية فنية ولعلي اصل بها الى حد الصحف المصرية او السورية مثل الفكاهة والكشكول والدبور والمضحك المبكي. وعلى الله وحده اتكالي وهو خير معين ونصير. أ- حبزبوز وقد بقيت جريدة حبزبوز تصدر حتى عام 1938 حيث توقفت قبيل وفاته بقليل بعد ان اشتدت عليه وطأة المرض فطرحته في الفراش واقعدته عن الكتابة. على ان نوري ثابت لم يف بوعده الذي قطعه على نفسه من ان جريدته بعيدة عن السياسة فلقد كانت والى يوم حجبها سوطا قاسيا الهب ظهور رجال السلطة وعراهم بشكل جريء لم يَسبق له مثيل مِن قبل..